ما زال الموقف الفلسطيني الرسمي يراوح مكانه، ويعيد إنتاج الخطاب المعاد نفسه مرارا وتكرارا، الذي فقد قيمته لدى الشارع الفلسطيني، لأنه سمع الكلمات نفسها والتهديدات والوعود نفسها، والنتيجة أن المشروع الوطني الفلسطيني يتراجع، ويصل إلى طريق مسدود، بعد أن تبين أن تحقيق الدولة المستقلة أمر من الماضي، والوحدة الوطنية في أسوأ حالاتها، والاقتصاد الفلسطيني في تراجع، ونسبة الفقر في تصاعد وانتشار الفساد والمحسوبيات والعنف الداخلي، وتهويد القدس في مراحله الأخيرة، خاصة بعد إغلاق باب الرحمة يوم الاثنين الماضي، وهي الخطوة التي تسبق تقسيم الأقصى، والوضع العربي في غالبه يتجه نحو التخلي عن القضية الفلسطينية، والتطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، بدأ يأخذ الطابع العلني وبدون شروط حتى لحفظ ماء الوجه. في ظل هذه الأوضاع العسيرة والخراب الشامل لنراجع الخطاب الرسمي للقيادات.
* الرئيس الفلسطيني محمود عباس في خطابه الموجه للشعب الفلسطيني يوم 19 مايو بمناسبة قرار حكومة الطوارئ الإسرائيلية بضم نحو 30% من الأرض الفلسطينية المحتلة، أعلن أن الضم يعني أن السلطة ستكون في حلٍّ من الاتفاقيات المعقودة بين السلطة الفلسطينية، وكل من إسرائيل والولايات المتحدة. ولم يفهم أحد معنى أن تكون السلطة في حلٍّ من الاتفاقيات، أهو إلغاء تام بحيث لا تعود لها أي قيمة قانونية؟ وهل يشمل الإلغاء اتفاقية باريس الاقتصادية لعام 1995 التي ربطت الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي تماما، بما في ذلك جمع الضرائب؟ هل يشمل الإلغاء اتفاق أوسلو-2، الذي قسّم الضفة الغربية إلى ألف وباء وجيم، ووضع مناطق جيم التي تصل إلى 60% من أرض الضفة تحت السيطرة الإسرائيلية بالكامل، إدارة وأمنا وموارد وطرقا ومنشآت؟ فهل فعلا تعني السلطة ما تقول؟
* كذلك كرر الخطاب الرسمي، أن السلطة أوقفت التنسيق الأمني مع إسرائيل. فبعد أن أعلن رئيس الوزراء محمد إشتية، في مؤتمر صحافي يوم 26 مايو عن وقف التنسيق الأمني، التقى برؤساء الأجهزة الأمنية وطلب منهم وقف كافة أشكال التنسيق الأمني مع إسرائيل. فهل حقيقة حدث هذا؟
القناة 13 الإسرائيلية قالت يوم 23 مايو، أي بعد خطاب عباس بأيام، إن السلطات الإسرائيلية تلقت تطمينا من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بأنها لن توقف التنسيق الأمني. كما كشف المصدر أن عمليات الاعتقال الليلية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية، لاسيما المصنفة «أ»- تم استئنافها بعدما توقفت ثلاثة أيام في أعقاب إعلان عباس وقف التنسيق الأمني. وقد عادت الاعتقالات نتيجة التنسيق الميداني بين السلطة وإسرائيل. وقال المصدر، عندما تسحب بطاقات (VIP) إعرف أن التنسيق الأمني توقف، بل ذهبت السلطة بعيدا في إعادة تعريف المقاومة الفلسطينية المشروعة ضد الاحتلال بأنها إرهاب، قائلة على لسان المتحدث باسم الأجهزة الأمنية، بعد أن أفشلت تلك الأجهزة عملية ضد قوات الاحتلال في منطقة جنين في بداية يونيو حسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» «الدولة الفلسطينية في توقيع على اتفاقيات دولية ضد الإرهاب، ونحن لا نخشى ذلك، ونعتبر أنفسنا جزءاً من المنظومة الدولية والعربية في مواجهة الإرهاب». إذن، وحسب العديد من التسريبات والتصريحات، خاصة من المسؤولين الإسرائيليين، التنسيق الأمني لم يتوقف.
لا يمر يوم بدون أن تسمع مقولة «نطالب المجتمع الدولي» والمجتمع الدولي لن يقوم بدور منوط بنا نحن كفلسطينيين وعرب
* الرئيس عباس وصائب عريقات أعلنا أن الضم يعني حل السلطة، وسيعيدون مسؤولية الأراضي الواقعة تحت الاحتلال إلى القوة القائمة بالاحتلال، «دعهم يتكفلون بلمّ القمامة والصحة والتعليم» كما صرح عريقات. وقد أشار رموز السلطة إلى اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تنظم علاقات المحتل بالسكان الواقعين تحت الاحتلال.
إمكانية حل السلطة: لنحاول هنا أن نسأل هل هناك إمكانية لحل السلطة والتحول إلى دولة؟ أي هل السلطة قادرة أو راغبة في حل نفسها أولا، ثم هل هي قادرة أو راغبة في التحول إلى دولة؟ وهل هناك فرق بين أن نطلق على التركيبة القيادية الحالية التي تسمى سلطة، اسم الدولة فتصبح دولة. ألم يصدّعوا رؤوسنا بإعلان قيام دولة فلسطين منذ عام 1988، ثم غيروا كل يافطات السلطة داخل البلاد، وسموها دولة فلسطين، وخاصة بعد اعتماد قرار 19/67 بتاريخ 29 نوفمبر 2012، الذي اعترف بفلسطين كدولة مراقبة؟ فماذا سيتغير لو أن القيادة الحالية ألغت كل ما يتعلق بالسلطة، وأعلنت نفسها دولة تحت الاحتلال؟ فمرة هي سلطة، ويستطيع أبو مازن أن يترك المفاتيح على الطاولة لنتنياهو، ومرة هم دولة ملتزمة بالقوانين الدولية ومنضمة لعشرات المعاهدات.
لنتذكر أولا أن إنشاء السلطة الفلسطينية بتركيبتها ووظائفها الحالية، هو قرار إسرائيلي فلسطيني، اعتُمد بموجب اتفاقيات أوسلو. فشرعية هذه السلطة انطلقت أولا من اتفاقيات أوسلو، ثم تحت سقف أوسلو اعتمدت الانتخابات، وأقيمت المؤسسات وتدفقت المساعدات من الدول المانحة، ووصلت لأيدي السلطة المنوط بها وظائف محددة أهمها ثلاث: ضبط الأمن في مناطق السلطة الفلسطينية، بحيث تنعم إسرائيل بالأمن والأمان. وثانيا أن تعفي الاحتلال من مسؤولياته التي تنص عليها المعاهدات الدولية، خاصة فيما يتعلق بالسكان. والوظيفة الثالثة هي الدخول في مفاوضات مع القوة القائمة بالاحتلال، بدون مرجعية إلا المفاوضات نفسها. وهذه المفاوضات مقسمة إلى قسمين: المرحلة الانتقالية لنقل السلطة من أيدي إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية، بمقدار ما تثبت هذه السلطة جدارتها بضبط الأمن، ثم تأتي مرحلة مفاوضات الوضع النهائي، التي ستحدد الشكل النهائي للكيانية الفلسطينية، التي تنتهي إليها السلطة، والتي كانت القيادة الفلسطينية تبشر بقيام الدولة الفلسطينية على أرض الضفة الغربية وغزة، وعاصمتها القدس الشرقية «شاء من شاء وأبى من أبى».
ما هو موجود الآن سلطة صادرت دور منظمة التحرير الفلسطينية، لتأخذ شكل الدولة التي تمثل الشعب الفلسطيني، لكنها لم تتقن دورها كسلطة، أي حصر مهامها في موضوع إدارة المناطق التي تحت سيطرتها وتكون لها مرجعية عليا هي منظمة التحرير الفلسطينية. والنتيجة أنها أضعفت، بل فككت منظمة التحرير الفلسطينية ومنحت نفسها صلاحيات التمثيل، بعد أن حصرت الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وليس فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وحصرت صلاحياتها في بعض هذه الأرض فقط، كما حصرت مهاماتها في كل ما لا علاقة له بالسيادة الحقيقية على الأرض والشعب.
لقيام الدول أربعة شروط حددها القانون الدولي: شعب وأرض وسلطة شرعية واعتراف دولي. هذه الشروط الأربعة غير متوفرة للوضع الفلسطيني حتى لو أعلنوها دولة، أو كما قال نتنياهو ليسموها «إمبراطورية» ما دام الأمن في أيدينا والسيادة والحدود وحق حمل السلاح والتجارة والدخول والخروج.
* والنقطة الأخيرة في الخطاب السلطوي هي مقولة اللجوء للمجتمع الدولي. كل رموز السلطة، ما زالوا يكررون موضوع العودة إلى المجتمع الدولي، أو مناشدته أو الاحتكام إلى القانون الدولي. ولا يمر يوم بدون أن تسمع مقولة «نطالب المجتمع الدولي». وقد أشرنا كثيرا إلى أن المجتمع الدولي لن يقوم بدور منوط بنا نحن كفلسطينيين وعرب. المجتمع الدولي في الأخير محكوم بموازين القوى القائمة. فقد دعت روسيا لاجتماع حول القضية الفلسطينية منذ خمس سنوات، لكن أحدا لم يسمع ولم ينتبه للدعوة. أما فرنسا فنظمت اجتماعا دوليا حضرته 70 دولة في يناير 2017 وانتهى إلى لاشيء، وكأنه حفل تعارف. القرار في كل ما يتعلق بالنزاع على الساحة الفلسطينية الإسرائيلية مرتبط حصريا في يد الولايات المتحدة، إلا إذا الشعب الفلسطيني هبّ ليدافع عن حقوقه بشكل متواصل ومتعاظم ومتراكم.
نقطة البداية في التعامل مع الوضع الحالي، هي إعادة القضية إلى جوهرها الصحيح: قضية تحرر وطني من استعمار استيطاني إحلالي تفريغي، يهدد الأرض كلها والشعب كله. البداية تكون بانتخاب قيادة جديدة منبثقة من نتائج انتخابات مجلس وطني جديد لكل الشعب الفلسطيني في كل مكان، وإطلاق عملية بناء وإصلاح ما خربته سنوات أوسلو العجاف، وطلاق «ثقافة المقاومة» بمعناها الشامل ضد الاحتلال وأدواته ونظام الفصل العنصري والحصار، بهدف تغيير موازين القوى لصالح الحق الفلسطيني، وعلى حساب الباطل الإسرائيلي. يومها سنرى كل شرفاء العالم يلتفون حول النضال الفلسطيني العادل والحضاري والشامل، الذي يعمل على بناء دولة الحق والعدل والمساواة والديمقراطية لكل سكان فلسطين، بدون تمييز قائم على لون أو عرق أو دين أو جنس أو لغة أو موقع اجتماعي.
عبدالحميد صيام
القدس العربي