الارتياح الذي ساد الشارع الإيراني بعد توقيع الاتفاق النووي بين الدول الغربية وإيران له ما يبرره فهو ينهي عقودا من الصعوبات الاقتصادية ويعطي مساحة من الانفتاح على العالم الغربي المتعلق تاريخيا بإيران القديمة وحضارة فارس المنحوتة في كل متاحفه ومعارضه الفنية.
هذا المسار تعرض له عدد من الباحثين والإعلاميين والساسة الغربيين في حديثهم عن إعادة تأهيل إيران بشروط مختلفة مع حكم ولي الفقيه وطبيعته الدينية الطائفية لمرحلة من إدارة الشرق الإسلامي، خاصة المشرق العربي وإقليم الخليج العربي.
ما يهم المواطن الإيراني البسيط هو مساحة الرفاه والانفتاح، وفرص الاقتصاد والتنمية لواقعه الاقتصادي، ويهمه تطبيق الملاحق السياسية غير النووية وغير المعلنة بالضرورة مع واشنطن والترويكا الغربية لتثبيت استقرار سياسي جديد، وإصلاح ثقافي يخفف قبضة التطرف لحركة رجال الدين في الشارع الوطني العام، وقبضتهم البرجوازية الاقتصادية التي تخفي حالة استحواذ وصفقات ضخمة مع تجار رأسماليين صعدت أسهمهم بعد الثورة في بازار إيران الكبير.
غير أن مهمة العبور لتثبيت هذه الصفقة يمارسها الغرب حين أقرها مع طهران كمرحلة زمنية يديرها من وراء البحار وعبر طاقم موظفيه، ونفوذه في الحديقة الخلفية للخليج العربي الذي ضمنت له مرحلة زمنية واسعة بعد الانتداب الإنجليزي بتحديد معالم مصالحه وتدفق النفط منه لعقود، تضاف إليها الجيوإستراتيجية لجغرافيا الخليج، وهي عنصر مهم دفع الغرب لاختيار إيران للمرحلة الحساسة من تاريخ الشرق العربي، ولعبة الأمم الكبرى فيه.
يعني ذلك أيضا أن الغرب أو المركز -كما في نظرية المركز والأطراف التي طرحها الدكتور عبد الله النفيسي قديما- لا يزال يحتفظ بعنصر تفوق نوعي أمام إيران وإن اختارها شريكا.
كما يشاركها اليوم في إعادة صناعة المشهد السوري لنموذج انتقالي لصالح القطبين يحقق تثبيت ذات الحصاد السياسي في العراق، ويضمن لهما لجم التمرد السني الحقوقي المناضل لحريته، ويضمن لهما في ذات الوقت إدارة التوحش الداعشي في مناطق السنة، لتحقيق فوضى خلاقة تبتعد عن مناطقهما وتترك لتضرب في جغرافيا العرب الأخرى أو تركيا.
هذه المعادلة لا خلاف حول تثبيتها اليوم، ولكن خيارات الغرب -المركز- تختلف عن خيارات إيران التي ستبقى طرفا من الأطراف وليست مركزا، وعليه فإن فرص سقوط هذه اللعبة أو تلك ستؤثر عليها كثيرا إلى مستوى خطير قد يهدد وحدتها القومية أو نظامها السياسي.
والذي يطرح مساحة التمدد الإيراني اليوم ويقرؤه بهدوء يدرك تماما هذا الواقع الخطير والوحل الذي تتمدد فيه إيران الجمهورية الطائفية، فمستوى استهلاك حزب الله اللبناني الموالي لها وصل ذروة متقدمة من الاستنزاف في حربه ضد الشعبين السوري والعراقي، وقد كان سابقا يخوض معارك محدودة مقننة مع تل أبيب بعد تصفية الأسد المقاومة العربية المتعددة التوجهات فيلبنان، وتسليم الجنوب لإيران.
لكن تلك المقاومة الموسمية في جنوب لبنان كانت تقدم خسائر محدودة تضمن لها صناعة إعلامية ضخمة للغاية وتوظيفا سياسيا حوّل الدولة كلها إلى رهينة في قبضة إيران تضعها ضمن سلة بطاقاتها التفاوضية، في حين تلتهم حربه على الشعبين السوري والعراقي قطار جنائز لم تسبق في تاريخه.
وفي العراق جاءت رسائل التمرد المدني الأخير وكأنها انقلاب ثقافي غير متوقع، ولقد تأثر البيت الشيعي بها، وهو المصطلح الذي سمي به التحالف السياسي الشيعي في أول اجتماعاته في لندن، والذي رحب بغزو العراق وشارك واشنطن في تفاصيله برعاية ودعم إيراني كبير.
وقد تأثر اليوم بهذا التمرد وانعكس على خلافات واسعة بين أطرافه في العملية السياسية، ويأتي هذا التطور بعد نجاح المرجعية المقربة من إيران في تحشيد الإنسان الشيعي ضد مواطنه السني، ومواجهة مظاهرات الكرامة والحقوق وإسقاط الفصل الطائفي والتي أطلقها ربيع العراق السلمي المغتال.
ثم حوّل هذا التحشيد الذي كان يستخدمه المالكي وقبله إبراهيم الجعفري -كل موسم- بفتاوى المرجعية إلى تهجير واضطهاد المدنيين السنة بحملات واسعة واعتقالات عديدة وثلاث حروب وحصار مشترك مع القوات الأميركية ضربت مدنيي الفلوجة ومناطق أخرى.
في حين أن الاحتجاج الأخير كان قوامه من قيادات ثقافية تقدمية علمانية داخل الطائفة الشيعية، إذ إن الحركة التي أطلقت مظاهرات ضد الفساد والإقطاع قبل شهر كانت داخل طبقة اجتماعية تحت نفوذ البيت السياسي الشيعي، وانتهت باعترافات داخلية لأطراف هذا البيت بأن ممثليه السياسيين هم في المجمل متورطون بعمليات الفساد والنهب المنظم الذي جرى في العراق شراكة مع الشركات الأمنية الأميركية وصفقات الفساد المتنوعة.
يعني هذا أن التحشيد الطائفي ضد سنة العراق كان يخفي بناء مصلحيا رأسماليا فاسدا يتاجر بدماء الضحايا المدنيين من الشيعة الذين قتلتهم جماعات العنف من القاعدة إلى داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) بفعل مباشر أو بتوجيه استخباري، وهذا التحشيد كان يضمن لإيران منع وصول أي طرح توافقي أو مجرد تهدئة اجتماعية بين سنة وشيعة العراق العربي يؤثر على استقطاب طهران وتوجيهها لأطراف البيت الشيعي والمرجعيات الموالية.
ومع عدم وضوح إمكانية نجاح خطة الغرب وإيران الأخيرة لاستثمار حرب داعش الدولية وخشيتهما من تحويلها إلى متنفس للثورة تنتهي إلى نقض حكم الأسد وكامل نظامه رغم دعم موسكو وأطراف عربية للخطة فإن هذا السيناريو سيكون خسارة كبيرة لطهران في توقيت دقيق، يضاف إليه التقدم النوعي للمقاومة اليمنية أمام تحالف الحوثي والمخلوع الذي رعته إيران، وراهنت بل واحتفلت بسقوط صنعاء في يده.
والغريب أن بروز مثل هذه التحديات جاء في توقيت دقيق تحصد فيه طهران ثمار توسعها وبطاقات نفوذها، وهو تحد له وجه آخر لو تعززت لغة التمرد في القاعدة الاجتماعية في شيعة العراق وانتقلت للخليج الذي يطبق حركيو إيران على أغلبية قرار الطائفة فيه، فضلا عن استقطاب عناصر وأفواج لتكون قاعدة أمنية عسكرية لتدخّل مقنن في دول الخليج يخدم نفوذ إيران.
ولا نجزم بأن ذلك التصدع في مشروع إيران الطائفي وارتداداته الداخلية التي قد تنقلب في الداخل الإيراني لصالح حركة اليسار الاشتراكي بقيادة مريم رجوي أو حراك اليسار الديني أو غيرها من تيارات مناوئة لحكم ولي الفقيه قد تنتهي إلى مشهد تورط كامل تبدأ به طهران رحلة عد تنازلي بدلا من اختراق تاريخي تعاضدي مع الغرب تحتفل به اليوم.
لكنها لحظة تحد فارقة للجمهورية الطائفية التي تدير اليوم عددا من الأقاليم المناوئة لها بما فيها إقليم الأحواز المحتل، والذي لا تختفي أعواد المشانق فيه لتعدم ثواره العرب الشيعة قبل السنة.
فمصالح إيران كانت تتحقق دوما عبر خدمات عربية مجانية، خاصة من بعض أهل الخليج كما فعل نفطهم في نقض الربيع العربي، وكما استخدمت واشنطن بعضهم في صفقات تخدمها وتخدم ولي الفقيه بأموالهم ونفوذهم، فهل تتغير قواعد اللعبة وتحترق إيران في موسم اختراقها.
مهنا الحبيل
الجزيرة نت