تجددت إراقة دماء العراقيين في ساحات الاحتجاج على الظروف المعيشية الخانقة وانحطاط الخدمات العامة وسوء إدارة الدولة واستشراء الفساد وانعدام الأمن العام، وغرق غالبية الأحزاب السياسية في صراعات مذهبية لا تضع مصالح الشعب العراقي في الحسبان بقدر ما تتهافت على خدمة أجندات خارجية.
وحتى ساعة كتابة هذا التعليق كانت التقارير تشير إلى مقتل متظاهرين اثنين وسقوط عشرات الجرحى بسبب استخدام قوات الأمن القوة المفرطة والغاز المسيل للدموع في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد. كذلك خرجت تظاهرات في محافظات واسط وكربلاء والديوانية والنجف والناصرية، وقبلها شهدت محافظة ذي قار أعمال احتجاج مماثلة استمرت خمسة أيام، سبقتها تظاهرات في البصرة خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
وإذا كان المطلب الملموس وراء الاحتجاجات الراهنة هو تأمين الكهرباء خلال مواسم الطقس الحار حيث تتجاوز درجات الحرارة 50 مئوية في مناطق عديدة، فإن غالبية المطالب التي رُفعت خلال التظاهرات الأخيرة إنما تستأنف شعارات الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كما تعيد تجديد روحية الحراك الشعبي العارم الذي شهدته مدينة البصرة في تموز/ يوليو 2018 واتسع بعد ذلك ليشمل معظم مدن وبلدات الجنوب.
ورغم تبدل الحكومات والوزراء والمسؤولين الأمنيين، وتراكم الوعود حول تحسين الخدمات العامة ورفع مستوى المعيشة فإن الوضع ما يزال على حاله تقريباً، وبقيت حبراً على ورق تعهدات الشرطة العراقية بعدم اللجوء إلى العنف ضد المتظاهرين السلميين. كذلك بقيت مجرد أقوال تلك الوعود التي قطعها رؤساء الحكومات حول اجتثاث الفساد ومحاسبة الفاسدين، أو تحديد المسؤولين عن مقتل المئات من شهداء الانتفاضة وإحالتهم إلى القضاء، بل إن الأمور تسير نحو الأسوأ في هذه الملفات.
فحتى هذه الساعة لا يلوح أن النجاح سوف يحالف نائب وزير الداخلية المكلف بالتحقيق في اغتيال الباحث العراقي هشام الهاشمي الذي اغتيل مطلع هذا الشهر أمام منزله شرق بغداد، وتردد أن المسؤول عن اغتياله فصيل مسلح مدعوم من إيران ينتهك القانون في وضح النهار ويرتكب أعمال العنف من دون رادع أو رقيب. وما يزال الصحافي العراقي توفيق التميمي مختطفاً منذ آذار/ مارس الماضي رغم تعهدات كبار المسؤولين العراقيين، وآخرهم الكاظمي نفسه، بالعمل على إطلاق سراحه. وقبل أيام اختُطفت الناشطة الألمانية هيلا ميفيس في بغداد، ولم تتمكن السلطات الأمنية العراقية من تحريرها إلا بعد تسوية مع «الحشد الشعبي» الذي أعلن الخاطف أنه ينتمي إليه.
وأما أحدث وقائع الفساد فإن شر البلية ما يُضحك، إذ أعلنت هيئة النزاهة العراقية إصدار أوامر توقيف بحق أمناء مخازن في صوامع النجف على خلفية اختفاء أكثر من 752 طناً من الحنطة قيمتها 421.120 مليون دينار، كانت الهيئة قد تأكدت من إدخالها فعلياً. وقد وجد المسؤولون عن اختفاء الحنطة ذريعة غير مسبوقة في تفسير الأمر، وذلك بالزعم أن الطيور التهمتها. وهذا بالطبع هو الفساد الأصغر، مقابل أنساق أخرى من فساد أكبر بمليارات الدولارات على صعيد تماسيح الفساد الأشرس.
وبين الدماء التي تراق في ساحات الاحتجاج والحنطة التي تلتهمها الطيور، تتواصل محنة العراق فتتزايد المآسي وتنسد الآفاق.
القدس العربي