الراحة وتوافر أوقات فراغ لقضائها في الاستمتاع والاسترخاء هي الهدف الأسمى للإنسان، بعد عناء يوم طويل منذ عصور ما قبل التاريخ. وسعياً وراء ذلك الهدف، يحاول الإنسان على مرّ العصور أن يختصر أوقات عمله، بابتكار وسائل بسيطة تسهل عليه مهامه. وبنجاح تلك الابتكارات مرة تلو الأخرى، صار لدى الإنسان حافز متأجج، يحثه على اختراع المزيد من الوسائل منذ فجر البشرية، وصولاً إلى وقتنا الحالي.
وقد طرأت على البشرية قفزات من التطور، اتخذت شكل ثورات فكرية وصناعية، تزيد من مقدار اعتماد الإنسان على الآلة؛ لتسريع وتيرة الإنتاج، ولتحقيق فائض وتنوع من الاحتياجات. وقد مرّ الإنسان بأربع ثورات صناعية كبرى، لا تفصل بينها مسافات بينية طويلة. وكانت الثورة الصناعية الأولى في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، وتحديداً عام 1765 واستمرت حتى مستهل القرن التاسع عشر. وكان من أهم إنجازاتها تقديم الميكنة في صورة متكاملة معقدة، في وقت كان يعتمد الإنسان فيه اعتماداً كلياً على الأدوات البدائية. وبالتأكيد، كان اكتشاف مصادر الطاقة المتمركزة في الفحم، واختراع المحرك، الذي يعمل بالبخار هما عماد الثورة؛ ما دفع المجتمعات الزراعية لأن تعطي ظهرها لذاك النشاط الرئيسي، مستبدلة إياه بالمجالات الصناعية التي صارت العماد الاقتصادي للمجتمع الحديث. ومع نهاية القرن التاسع عشر، عام 1870، قامت الثورة الصناعية الثانية، وساعد على قيامها التقدم التكنولوجي، وكان عماده ظهورمصادر جديدة للطاقة ومن أهمها: الكهرباء، والغاز، وزيت البترول. وتعد الثورة الصناعية الثانية أهم الثورات الصناعية على الإطلاق؛ لأنها حددت ملامح الحياة التكنولوجية في العقود والقرون التالية. فقد كان لاكتشاف مصادر جديدة للطاقة، الفضل في تطوير محرك الاحتراق الداخلي، إلى أن وصل لصورته وإمكانياته الكاملة التي تضاهي ما هو عليه الآن. وتماشياً مع متطلبات الثورة، ازدادت معدلات الطلب على الحديد والصلب، والتركيبات الكيميائية المستخدمة في المصانع، ووسائل الاتصال؛ مثل التليفون، والتلغراف. ثم بدأت الرفاهية تعم أنماط الحياة بعد اختراع «الأوتوموبيل» وخضوعه لقفزات تطور متسارعة الخطى. ثم اختتم الأمر بصناعة الطائرات، وزيادة الاعتماد عليها حتى صارت وسيلة التنقل الأولى بين دول وقارات العالم المختلفة.
وعلى الرغم من أنه من المفترض أن الثورات الصناعية تسهل مناحي الحياة، لكن ما حدث أنها جعلت حياة الإنسان غاية في الصعوبة بدونها.
أما الثورة الصناعية الثالثة، فبدأت مع النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديداً عام 1969، مع اكتشاف مصدر جديد من الطاقة البكر، ألا وهي الطاقة النووية. وكان من أهم إنجازاتها تطور وسائل الاتصالات، وإحداث ثورة في عالم الإلكترونيات. أعظم إنجازاتها كان اختراع الكمبيوتر وتطويره، ما أدى بدوره لاستحداث رحلات للفضاء، وتعاظم الأبحاث وتنوعها وانتشارها، وكذلك تطور التكنولوجيات الحيوية، التي نجم عنها تتبع الحمض النووي للإنسان، فتطورت تكنولوجيات نقل الأعضاء وزراعتها، والتخصيب الصناعي والاستنساخ. وكان البشير لعصر من الازدهار التكنولوجي وانتشار الآلة في عالمنا الحديث اختراع وحدات التحكم المنطقية القابلة للبرمجة Programmable Logic Controllers (PLC) ـ وهي وحدات برمجية ذكية ـ ثم اختراع الروبوت.
ومهد جميع ما سبق الطريق للثورة الصناعية الرابعة بكل عنفوانها وشراستها. والثورة الصناعية الرابعة تتمثل في المنظومة السيبرانية، التي تتعاظم ويتعاظم دورها كل يوم، لدرجة أنه بات من الصعب الاستغناء عنها، أو حتى التراجع عن أي شيء تقدمه لنا. فالمنظومة السيبرانية صارت عماد المصالح الحكومية، والمنظومة البنكية والتمويلية، والمنظومة البحثية والتعليمية، ووسيلة الاتصالات والترفيه، ومحور حركة النقل والمواصلات، والأساس الذي تقوم عليه المؤسسة الطبية والصناعات الدوائية، والجيش البديل الذي يجنب البشر المواجهات العسكرية الغاشمة وما ينجم عنها من خسائر في الأرواح، والمعدات، واستنزاف الموارد المالية والاقتصادية. ونقلت الثورة الصناعية الرابعة العالم بأسره إلى واقع بديل يستفحل دوره بشراسة. فعالمنا المادي الملموس تحول إلى عالم افتراضي سيبراني، شهد توغله بداية الألفية الثالثة مع انتشار الإنترنت وتغلغله في جميع مناحي الحياة. وتمهيداً لزج البشرية في واقع افتراضي متكامل الأرجاء، قامت دول الاتحاد الأوروبي بإطلاق مبادرة «مشروع إعادة تشغيل الجهاز» Restart Project الذي يهدف إلى دمج القطاع الصناعي في المنظومة الافتراضية بمناحيها ومتطلباتها المختلفة. وعلى ذلك يؤهل المشروع شباب دول العالم المختلفة للتعامل مع هذا العالم الرقمي الجديد الذي توحد مع التطورات التكنولوجية الصناعية. فالتكنولوجيا وتقديمها في صورة محببة للبشر تجعل الجميع يعتمدون عليها اعتماداً كلياً، مثلما حدث بعد الثورة الصناعية الأولى، التي كانت كقطار سريع يجر البشر خلفه في منعطفات وأنفاق مظلمة، حين جعلته ينتقل من ثورة لأخرى. وعلى الرغم من أنه من المفترض أن الثورات الصناعية تسهل مناحي الحياة، لكن ما حدث أنها جعلت حياة الإنسان غاية في الصعوبة بدونها. فما قدمته الثورات الصناعية للبشرية هو تسهيل انتقالها من عالم الواقع الملموس إلى عالم افتراضي على مراحل، استمرت نحو ثلاثة قرون من الزمان.
وبالنظر لحال البشر منذ ثلاثة قرون سابقة، حين كانت التكنولوجيا أدوات بدائية، نجد أنهم كانوا يتمتعون بكامل آدميتهم، وكان لديهم خصوصية مفرطة جعلتهم يفكرون ويستمتعون بجميع مناحي الحياة، بدون ضغوط، أو توتر، أو اضطرابات نفسية تذكر، على عكس السائد في عصر التكنولوجيا السيبراني. فحالياً، تفقد شعوب العالم صحتها الجسدية، والنفسية، ومروراً بذلك، قواها العقلية، ومعدلات الذكاء. فبعد أن كانت شعوب العالم تتمتع بمقدار ملحوظ من الذكاء، يعينهم على التغلب على صعوبات الحياة البدائية، يكتفي البشر حالياً القيام بدور المتلقي الذي يعتزم ألا يجعل لذكائه أو تفكيره أي دور، وهو يشغل أنظمة وتكنولوجيات شديدة التقدم، من خلال كبس أزرار يعرف أماكنها وألوانها، بدون أن يعلم حتى كيف يصلحها.
ما ينتظر البشر في القرن المقبل مستقبل من الأغبياء الجهلاء ذوي ذكاء محدود، قد يقل معدله عن ذكاء قطة شيرازي مدللة. أما الحالة الصحية، فلن يتمتعوا بها. فما سوف نراه ـ كما هو سائد الآن ـ أجساما كاملة الجمال من حيث الشكل العضلي والمظهر الخارجي، لكنها تخلو من القوة الحقيقية لضعفها الشديد؛ فقد صنعت هذه الأجساد الهرمونات، والسيليكون، والفيلر. ومن ثم، فهي تتمتع بالمظهر وتخلو من الجوهر. لو سار العالم في منحدر التكنولوجيا الجوفاء، سوف يصل لنهايته في أقرب وقت ممكن، لربما قبيل مرور قرنين فقط من الزمان. ومن ثم، فالثورة الصناعية الخامسة سوف تكون الوبال الأعظم الذي يهبط على البشرية. لكم نتمنى أن تصير هذه الثورة ليست ثورة علم أو تكنولوجيا، لكن ثورة إرجاع البشر لمسار الآدمية التي يفقدونها يوماً تلو الآخر.
نعيمة عبدالجواد
القدس العربي