هل الارتفاع الصاروخي للذهب يمثل بداية رحلة الهبوط التاريخي للدولار؟

هل الارتفاع الصاروخي للذهب يمثل بداية رحلة الهبوط التاريخي للدولار؟

تسارع معدل زيادة أسعار الذهب خلال الأسابيع الأخيرة، حتى تجاوز سعر الأوقية 2075 دولارا مقابل 1520 دولارا في بداية معاملات كانون الثاني/يناير الماضي. بهذا يكون الذهب قد حقق حتى نهاية الأسبوع مكاسب بلغت 555 دولارا بنسبة 36.5 في المئة منذ بداية العام الحالي. وبإضافة المكاسب القوية التي حققها في العام الماضي بنسبة بلغت 20 في المئة، فإن حصيلة مكاسب المستثمرين في سوق الذهب خلال العامين الأخيرين ترتفع إلى ما يقرب من 60 في المئة. وتتوقع مؤسسة “فإن إيك” الأمريكية لإدارة محافظ الاستثمار، التي تدير صندوقا عالميا للاستثمار في الذهب، أن أسعار المعدن النفيس ستواصل ارتفاعها إلى مستوى 3400 دولار للأوقية، أي ما يزيد عن ضعف مستواها في بداية 2020.

وقد ارتبطت موجة ارتفاع الذهب في العامين الأخيرين بزيادة حدة الحرب التجارية والتكنولوجية وغيرهما من مظاهر الحرب الباردة التي تخوضها الولايات المتحدة ضد الصين. وكلما زاد لجوء الولايات المتحدة إلى تصعيد وتوسيع نطاق الحرب الباردة، كلما زاد ميل المستثمرين للجوء إلى الذهب على حساب الدولار الذي كان يعد واحدا من أهم الملاذات الآمنة في أوقات الأزمات. وقد سجلت حيازة الأجانب من سندات الخزانة الأمريكية انخفاضا صافيا خلال شهر اذار/مارس بقيمة 300 مليار دولار. وما تزال موجة البيع مستمرة حتى الآن حيث سجلت المعاملات في شهري نيسان/أبريل وايار/مايو انخفاضا في صافي حيازة الأجانب بقيمة 205 مليار دولار تقريبا.

ومن الملاحظ بشكل عام أن معدلات ارتفاع أسعار الذهب في الظروف العادية تعكس عوامل اقتصادية محددة أهمها التضخم. وعلى سبيل المثال فإن أسعار الذهب بدأت من مستوى 1312 دولارا للأوقية في كانون الثاني/يناير 2018 وأنهت العام عن مستوى 1360 دولارا بنسبة زيادة بلغت 3.6 في المئة أي بالقدر الذي يحمي قيمة الاستثمار من التآكل ويمنح المستثمرين عائدا سوقيا مناسبا.

ويقدر مجلس الذهب العالمي أنه بسبب ارتفاع مستوى المخاطر وزيادة حدة التقلبات في الأسواق لأسباب اقتصادية وغير اقتصادية، فإن حيازة صناديق الاستثمار للذهب ارتفعت خلال الشهر الماضي بنسبة 22.6 في المئة عما كانت عليه في نهاية النصف الأول من العام. وتبلغ حيازة الصناديق من الذهب حاليا 3785 طنا تقدر قيمتها بنحو 240 مليار دولار.

وفي مقابل هذه القفزة الصاروخية في أسعار الذهب فإن الرقم القياسي للدولار سجل تراجعا ملموسا مقابل العملات الرئيسية خصوصا اليوان واليورو والين؛ ففي مقابل اليوان على سبيل المثال كان الدولار يشتري 7.12 يوان في اذار/مارس فأصبح الآن يشتري 6.9 يوان فقط. ومع استمرار تعثر أداء الاقتصاد الأمريكي، وخروج الانفاق الحكومي عن نطاق السيطرة، والفشل في السيطرة على وباء كورونا، تتزايد الشكوك حول قدرة الولايات المتحدة على التعافي بسرعة، ولهذا فإن مؤسسات الاستثمار والصناديق السيادية تتجه إلى تقليل الاحتفاظ بالدولار كملاذ آمن يساعد على الوقاية من مخاطر التقلبات المالية والاقتصادية. وطبقا للتقديرات الحالية فإن حائزي السندات وأذون الخزانة الأمريكية تخلصوا من 300 مليار دولار من هذه الأوراق في اذار/مارس الماضي، وأن هذا الإتجاه ما يزال مستمرا حتى الآن.

ومن المتوقع أن تسود أسواق العملات حالة من التقلبات الشديدة حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وظهور مؤشرات النتائج الأولية، هذا إذا جرت الانتخابات في موعدها المقرر في الثلاثاء الأول من تشرين الأول/نوفمبر المقبل. وقد ثارت الشكوك بشأن موعد إجراء الانتخابات بعد أن تم تداول معلومات تشير إلى احتمال إعلان حال الطوارئ قبيل الانتخابات، إما بسبب تفشي فيروس كورونا، أو بسبب صدامات عسكرية محتملة مع الصين، واستخدام ذلك من جانب الرئيس الحالي دونالد ترامب كذريعة لتأجيل الانتخابات والبقاء في منصبه.

نبوءة ديستان

في ستينيات القرن الماضي قال وزير المالية الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، الذي أصبح رئيسا للجمهورية فيما بعد، أنه حان الوقت لكي ينزل الدولار من عرشه كعملة الاحتياطي النقدي الرئيسية للعالم. لكن العملة الأمريكية ما تزال حتى الآن وبعد ستين عاما من نبوءة ديستان هي عملة الاحتياطي الرئيسية للعالم، حيث يستحوذ الدولار وحده على نحو 40 في المئة من سلة الاحتياطي النقدي الدولي لدى البنوك المركزية، كما يتم استخدامه في تسوية مدفوعات ما يقرب من ثلثي التجارة الدولية خصوصا النفط والغاز والمواد الأولية. وفي أسواق المال يستحوذ الدولار والأوراق المالية المقومة به على نحو 85 في المئة من المعاملات، كذلك فإن الديون المصدرة بالدولار الأمريكي تعادل ما يقرب من نصف إجمالي الديون العالمية. وليس من المتوقع أبدا أن يسقط الدولار من عرشه بين يوم وليلة، ولا في خلال سنوات قليلة، لكن المرجح أن رحلة الهبوط التاريخي للدولار قد بدأت بالفعل، وأنه لم يعد عملة الملاذ الآمن في أوقات الأزمات، كما أن جاذبيته كعملة استثمار قد تراجعت كثيرا منذ أوائل القرن الحالي. وطبقا لدراسة أصدرها غولدمان ساكس فإن الخسائر التي تعرض لها الدولار خلال شهر تموز/يوليو الماضي هي الأسوأ منذ ايلول/سبتمبر 2010.

اتجاه للتخلص من الدولار

ويعتقد المسؤولون عن محافظ استثمارات العملات في صناديق وبنوك استثمار عالمية مثل بلاك روك وغولدمان ساكس، أن الباب أصبح مفتوحا لإعادة تقييم وزن الدولار أمام العملات الأخرى، وأن دور العملة الأمريكية في توفير السيولة المالية للعالم أصبح محل إعادة نظر، وأن عملات أخرى ستتقدم لملء الفراغ الذي سيخلفه تراجع الدولار، أهمها اليورو واليوان والاسترليني والين. لكن الدولار سيظل عملة مسيطرة لفترة من الوقت، حتى تختمر العوامل الأخرى التي تساعد على استقرار أسواق النقد في العالم على أسس علاقات جديدة بين العملات الرئيسية. وسوف تزيد من قوة الميل التاريخي لتراجع الدولار السياسات التي يتبعها من البنوك المركزية في العالم بالتخلي تدريجيا عن الدولار، خصوصا في الدول التي تعاديها الولايات المتحدة وتستخدم الدولار سلاحا في الحرب عليها عن طريق العقوبات المباشرة وغير المباشرة.

ويعتبر البنك المركزي الروسي من أهم البنوك العالمية التي تخلصت تقريبا من الدولار، وفقا لسياسة محددة تقضي بزيادة احتياطي الذهب لتعزيز قيمة الروبل، وتنفذ برنامجا للتخلص من سندات وأذون الخزانة الأمريكية؛ إذ تخلص البنك خلال السنوات الثلاث الأخيرة حتى اذار/مارس 2020 من 96 في المئة من حيازته لأدوات تمويل الدين الأمريكي لتهبط قيمة حيازته من 105 مليارات دولار إلى 3.8 في المئة فقط. كذلك فإن البنك المركزي الصيني يعمل بشكل منتظم على تخفيض صافي حيازته من إصدارات الخزانة الأمريكية، لكنه ما يزال يحتفظ بنحو تريليون دولار وهو ما يقل بنسبة 20 في المئة عما كان عليه قبل عام 2018. ويحرص الصينيون على أن يكون انخفاض الدولار محدودا ومنظما لضمان استقرار قيمة استثماراتهم الحالية في الولايات المتحدة.

ضعف احتمالات التعافي

تبلغ قيمة برامج الإنعاش الاقتصادي التي تهدف لتحقيق التعافي من تداعيات الإغلاق الناتج عن وباء كورونا ما يتراوح بين 10 إلى 12 تريليون دولار منها 6 تريليونات خصصتها الولايات المتحدة. وتضمنت برامج الإنعاش حزمة تشريعات بمساعدات تتجاوز قيمتها 3 تريليونات دولار، إضافة إلى تسهيلات مالية بقيمة مماثلة تقريبا من جانب مجلس الاحتياطي الفيدرالي وبنوكه في الولايات. وتدور حاليا مفاوضات بين الجمهوريين والديمقراطيين في الكونغرس لتقديم حزمة جديدة من المساعدات المالية تصل إلى 3.4 تريليون دولار حسب تقديرات الديمقراطيين، في حين يسعى الجمهوريون إلى تخفيض قيمة الحزمة الجديدة إلى تريليون دولار فقط.

الخطير في برامج التعافي الاقتصادي الأمريكية أنها لم تنتج الآثار المطلوبة حتى الآن، ولا تلوح في الأفق علامات بأن الاقتصاد الأمريكي دخل فعلا في مرحلة التعافي، وهو ما دعا مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى التأكيد على أن الإنتعاش لن يبدأ في التحقق ما لم تتمكن الحكومة الأمريكية من السيطرة على أعداد المصابين والوفيات بفيروس كورونا. الصورة تبدو الآن على النحو التالي: الإنفاق العام ينطلق كالعربة الطائشة بدون اتجاه وخارج نطاق السيطرة، واحتمالات النمو ضعيفة جدا، ومن ثم فإن سوق العمل يعاني من حالة إحباط مخيبة لآمال الملايين الراغبين في الحصول على فرص عمل، الذين بلغ عددهم حتى منتصف تموز/يوليو الماضي أكثر من 33 مليون شخص يحصلون على إعانات بطالة.

وطبقا لمكتب الميزانية التابع للكونغرس فإن العجز في الأشهر التسعة الأولى من العام المالى الحالي وصل إلى 2.7 تريليون دولار، ومن المتوقع أن يبلغ 3.4 تريليون دولار للعام كله. في الوقت نفسه فإن الدين الفيدرالي للولايات المتحدة يقترب من 26 تريليون دولار أي ما يعادل 132 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، بينما يبلغ العجز التجاري حوالي 800 مليار دولار. ويتوقع مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن ينخفض الناتج هذا العام بنسبة 6.5 في المئة، على أن يتماسك في العام المقبل بنمو يصل إلى 5 في المئة، ثم 3.5 في المئة في العام التالي وليس من المتوقع أن يتمكن النمو الاقتصادي من مساندة الطلب على الوظائف للعاطلين عن العمل.

ومما يزيد الأمر سوءا بالنسبة لاحتمالات النمو أن معدل الادخار القومي (للحكومة وقطاع الأعمال والقطاع العائلي) يواصل الانخفاض، إذ هبط في الربع الأول من العام الحالي إلى 1.4 في المئة، وهو أقل مستوى منذ أواخر عام 2011 مقابل متوسط سنوي بنسبة 7 في المئة منذ ستينيات القرن الماضي حتى عام 2005. هذا الهبوط الحاد في معدل الادخار من شأنه أن يزيد حاجة الولايات المتحدة إلى التمويل الخارجي، ومن ثم اتساع العجز الجاري في ميزان المعاملات مع الخارج، وهو أحد أهم الأسباب التي تضغط على قيمة الدولار. ومع أن معظم دول العالم تشارك في تمويل هذا العجز، إلا أن سياسة ترامب المعادية للنظام الدولي المتعدد الأطراف، من شأنها أن تقلل إقبال دول العالم على تمويل العجز المالي المزدوج للولايات المتحدة، عجز الميزانية وعجز الحساب الجاري، وهو ما سيؤدي للمزيد من الانخفاض في قيمة الدولار.

الجزيرة