ربط محللون ارتباك الولايات المتحدة في بسط هيبتها كالعادة في الشرق الأوسط بعدم قدرتها على حل عدة ملفات حارقة تتصدر المشهد الجيواستراتيجي في المنطقة، فرغم اقتراب الإدارة الأميركية من كواليس أزمات سد النهضة وليبيا والسودان والصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، إلا أنها لم تتمكن من إظهار بصمتها. ويقول هؤلاء إن سياسة دونالد ترامب زرعت الشك لدى حلفاء بلده في أن واشنطن لم تعد تعرف مصالحها قبل أن تعرف مصالح أصدقائها، ولذا فإن الدول المحورية في المنطقة ستظل حذرة حتى في حال فوزه بولاية ثانية، وهو حذر قد يمتد إلى أكثر من البرود الدبلوماسي، ليصل إلى العلاقات الاقتصادية.
القاهرة – ظهرت الإجابة على التساؤل المحوري الخاص بالدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط منذ سنوات عندما فقدت الولايات المتحدة جزءا من بريقها في الأزمة السورية، وتفوقت عليها روسيا.
وفي تلك الفترة رص الكثير من المراقبين عبارات تتعلق برغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الوفاء بوعده الانتخابي الخاص بالانسحاب من الأزمات والصراعات في الشرق الأوسط، وأوشكت ولايته الأولى على الانتهاء والرجل لم ينسحب تماما أو ينخرط بقوة، وبدا مترددا أكثر من اللازم، بما انعكس على صورة بلاده في المنطقة والعالم.
وقد عكس ذلك التردد جانبا من الخلافات العصية على الفهم في الإدارة الأميركية، وكشف عن تباين فاضح في الرؤى، وآليات التعامل مع النزاعات في أماكن مختلفة، فواشنطن موجودة وغير موجودة، ومتداخلة وبعيدة، ما جعل الكثير من القوى الإقليمية تستهين بطروحاتها، والتي تأتي غالبا متأخرة أو محملة بأفكار تعبر عن توجهات طبقة معينة يهمها استمرار الاشتباك، ولا يهمها الحصول على نتيجة إيجابية.
ويمكن سرد مجموعة من الوقائع بسهولة تؤكد مدى الارتباك الأميركي، أو بمعنى أدق الرعونة وعكسها، ففي بعض الأحيان يظهر تريث زائد عن الحد في عدم الانخراط، وقد جلبت هاتين الصفتين خسائر جمة لواشنطن، وكشفتا لأي درجة تفتقد الإدارة الأميركية تقدير مواقفها وتحديد المكان الذي تضع فيه قدميها، ليس مهمّا الإخفاق في أزمة بحكم التشابكات والتعقيدات طالما أن هناك عوامل موضوعية دافعة لذلك.
تكمن الخطورة في أن الإخفاق يأتي في الحالة الأميركية من رحم حسابات خاطئة، وغطرسة لا مبرر لها حاليا، فلم تعد واشنطن السيد الذي يأمر فيطاع، والقوة السياسية التي يستجيب لها الآخرون سريعا، فكم من المواقف تثبت أن الولايات المتحدة تتصرف بطريقة بعيدة عن الواقع، وكم مرة رُفضت الاستجابة لنداءاتها ومبادراتها، وكم دولة لم تنصع لتحركات الإرادة الأميركية؟
وتصب إجابات هذه الأسئلة في مضمارين، أحدهما يتعلق بالتخبط الذي تعيشه إدارة ترامب، فهي تريد الانسحاب وتخشى من العواقب، وتتمنى التدخل في الصراعات وترفض تحمل التداعيات، وعيناها على روسيا والصين، والنمو البازغ لفرنسا على الساحة الأوروبية، ولا تملك الوسائل للمناطحة أو ضبط معادلة التوازنات، وعندما تقرر ذلك تتراجع عند أول المحكات.
أما المضمار الثاني، فيخص رغبة القوى الكبرى في كسب المزيد من المساحات في ظل الحالة المزرية التي تعيشها الولايات المتحدة، وإيجاد أمر واقع يصعب تغييره مستقبلا، والتحرك بسرعة تتجاوز السلحفاء الأميركية، والتي تتصور أن مجرد التحرك خطوات وببطء سيكون كافيا لردع من تسول لهم أنفسهم مناهضتها أو احتلال مكانتها، بل وإفساح المجال لتجلس على عرشها.
ولقد تغيرت معالم هذه الصورة النمطية بفعل متغيرات عديدة في التوجهات الأميركية، والتحولات الكبيرة في أدوات وملامح الأزمات والتوترات الإقليمية، وكلها شجعت دولا صغيرة لتتصدى لبعض المقاربات الأميركية، ربما يكون التصدي يعبر عن استهانة، وربما يكون تكتيكا تراه واشنطن مهمّا لإعفائها من الحرج عندما تقرر طرح رؤية أو مبادرة أو التوسط في أزمة.
وفي كل الأحوال، تبين هذه الوضعية منهج الولايات المتحدة، فالقوى الكبرى ليست بحاجة إلى التفافات من هذا النوع، أو حيل تفضي إلى نتائج تسيء إلى صورتها، خاصة أن الردود السلبية للتعاطي مع بعض الطروحات تحمل قدرا لافتا من الإهانة لصانع القرار الأميركي الذي يريد الزج باسم بلاده في وساطة أو مبادرة أو حتى طرح فكرة لا تلقى تجاوبا من معظم الجهات التي لها علاقة بهذه القضية أو تلك.
وهذا النمط يأتي بصرف النظر عن التشويش الذي صاحب صفقة القرن بين إسرائيل والفلسطينيين، والمطبات التي واجهتها عند إطلاقها والسعي نحو تطبيقها، وتوقف عند الألغاز السياسية وما صاحبها من أخذ ورد، انتهى إلى عدم الاعتداد العربي بها، وتجاهل واشنطن لانعكاساتها البعيدة، ولم تعمل على تعديلها، أو تمارس ضغطا واضحا لتدشينها، وانتهت إلى أن طواها النسيان، أو كأن شيئا لم يكن.
وساطة بلا فعالية
لم يتخيل كثيرون أن تقدم الحكومة الإثيوبية، قبل أيام، على إعلان الرفض التام لقبول أي ضغوط أميركية في أزمة سد النهضة، وكان التصريح مثيرا في جرأته، حيث تحدثت أديس أبابا صراحة عن ذلك دون أن تحدد طبيعة الضغوط التي مارستها واشنطن عليها، وما هي المطالب التي أرادت تنفيذها.
ومثلت إثيوبيا واحدة من الدول ذات العلاقة الوثيقة بالولايات المتحدة، وراهنت عليها الولايات المتحدة منذ نحو عقدين على أن تكون “رمانة ميزان” لمصالحها في شرق أفريقيا، وقدمت لها مساعدات اقتصادية سخية.
وتعود القضية إلى فبراير الماضي عندما أخفقت واشنطن في وساطتها بشأن سد النهضة بين إثيوبيا ومصر والسودان، وقدمت وقتها مسودة اتفاق مبادئ للتسوية، فوجئ الجميع برفض أديس أبابا التوقيع عليه، بعد ثلاثة أشهر من المناقشات والحوارات برعاية الولايات المتحدة والبنك الدولي.
وجاءت المفاجأة من إصرار إثيوبيا على الرفض وعدم إبداء الولايات المتحدة رغبة في اتخاذ إجراءات للدفاع عن وساطتها، وبلعت الموقف في صمت، وكادت تكون انسحبت ودخل الاتحاد الأفريقي على خط وساطة جديدة، وقتها قيل، ولا يزال، إن واشنطن لا ترغب في استخدام قوتها المادية والمعنوية، ومرتاحة للصلف الإثيوبي.
وبعد الكلام عن رفض أديس أبابا قبول الضغوط الأميركية، بدت المسألة وكأن لها علاقة بالهيبة والدور الذي يخفت تدريجيا للدرجة التي وصل فيها إلى أن دولة تملك علاقة وثيقة بها تتمنع عن الاستجابة لمقتضى وساطتها، وتضرب عرض الحائط جانبا من هيبتها في المنطقة، يضاف إلى انتكاسات أخرى.
ومنذ أيام طرحت الولايات المتحدة مبادرة بشأن جعل سرت والجفرة في ليبيا منطقة منزوعة السلاح، وتحاول تسويقها بإجراء حوارات مع قوى ليبية وإقليمية ودولية، غير أنها لم تجد حتى الآن آذانا صاغية لتطبيق المبادرة، لأنها ولدت مبتذلة ومشوهة، وبدت منحازة لطرف على حساب آخر.
وبصرف النظر عن مكونات الطرح وما يشوبه من ملابسات وغموض، فتوقيت الطرح مثير للانتباه، حيث جاء والإدارة الأميركية تنتابها تجاذبات داخلية حول التعامل مع الأزمة الليبية، وهي أيضا بنصف عقل سياسي للتعامل مع الصراعات الخارجية مع اقتراب انتخابات الرئاسة، كما أن هناك قوى متعددة تملك من الأوراق ما يمكنها من تفشيل أي مبادرة أميركية أو غيرها، في حين لم تظهر واشنطن كرامات حقيقية تمنحها حق المبادرة وتطبيقها في ليبيا.
ويشير دور واشنطن في أزمتي سد النهضة وليبيا، إلى طبيعة التفكير الذي يسيطر على إدارة الرئيس ترامب، والذي ظهرت أيضا تجلياته مع السودان مؤخرا، ففي الوقت الذي تحدثت فيه دوائر عدة عن اقتراب رفع اسم السودان من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، أصدرت السفارة الأميركية في الخرطوم بيانا حذرت فيه رعاياها من زيارة السودان، بذريعة أن هناك مخاطر على حياتهم بسبب استمرار التوترات.
ويؤكد هذا الاتجاه أنه لا توجد إرادة لرفع اسم السودان، وأن القضية من المرجح ترحيلها لما بعد الانتخابات الرئاسية، وكل التصريحات الإيجابية والمتفائلة تدخل في ضمن دبلوماسية العلاقات العامة، أو تندرج في إطار استهلاك الوقت، وعدم الاستعداد لاتخاذ خطوات كبيرة يمكن أن تثير لغطا في الداخل.
وتقلل هذه الممارسات من الوزن الأميركي في القضايا الإقليمية، بعيدا عن التقييم الخاص بالانسحاب من بؤر الصراعات، فهناك مصالح إستراتيجية مباشرة تتجاوز حدود الدور وتأثيره لا تعيرها واشنطن اهتماما كافيا بسبب الارتباك الطاغي على كثير من تصوراتها الخارجية.
العرب