يرى مراقبون سياسيون أن الآثار غير المباشرة للانقلاب العسكري في مالي على الرئيس أبوبكر كيتا، تحرك خليطا مدمرا من التمرد والأسلحة واللاجئين والمهربين والإسلاميين المتشددين بمنطقة الصحراء الكبرى المضطربة في قارة أفريقيا، في ظل الجدل حول مآلات هذا الوضع حول ما إذا كان العسكر سيوالون الإمام النافذ والمعارض محمود ديكو، وبالتالي الانجرار إلى تيار سلفي، أم أنها نسخة مشابهة لما حصل في السودان.
الرباط – تقفز العديد من التساؤلات أمام المراقبين والمحللين السياسيين حول الأسباب الأساسية التي جعلت مجموعة من القيادات العسكرية في مالي تقدم على الإطاحة بالرئيس المنتخب أبوبكر كيتا، والذي لم يمض على توليه ولايته الثانية سوى أسابيع قليلة.
وبينما يعتقد البعض أن الانقلاب سيدعم المعارض الأبرز المحسوب على التيار الإسلامي محمود ديكو، والذي شكل مع أحزاب معارضة وحركة المجتمع المدني في مايو الماضي تحالفا غير مسبوق دعا إلى التظاهر للمطالبة باستقالة الرئيس، لكن آخرين يرون أن ما حصل قد يكون شبيها بما حدث في السودان حينما أقدم الجيش على الإطاحة بالرئيس المخلوع عمر البشير.
وما يعزز الفرضية الأولى بشأن المخاوف من سيطرة الإسلاميين على مقاليد السلطة في مالي، هو الإجماع الدولي على رفض الانقلاب العسكري وحتى أقرب الدول المحاذية للبلاد، مثل الجزائر، أبدت امتعاضها الشديد من الخطوة التي ستزيد من تعقيد المشاكل على حدودها الجنوبية.
ومنذ مطلع يونيو، خرج المئات من الماليين إلى الشوارع للاعتراض على إبطال المحكمة الدستورية انتخاب 31 نائبا خلال الانتخابات التشريعية في مارس وأبريل الماضيين، وذلك جزء من المطالب المتمثلة في محاربة الفساد وضعف الخدمات العامة، مع انتقادات كيتا لعجز حكومته عن وضع حد للعنف الطائفي والجهادي ما أدى إلى حالة من الإحباط الشعبي.
وتنتمي مالي إلى دول الساحل الأفريقي والصحراء وتعتبر واحدة من أفقر دول العالم، حيث لا يوجد لها أي منفذ على البحر قد تستفيد منه في التجارة والصيد، كما تواجه هجمات جماعات إسلامية متطرفة رغم اتفاق سلام وقع في 2015، تتداخل مع أعمال عنف قبلية وطائفية.
الانقلاب يعمق الأزمة
يبدو أن الانقلاب، وهو الثاني بعد انقلاب مماثل في 2012 حيث أطاح ضباط متمردون من ذوي الرتب الصغيرة بالرئيس الأسبق أمادو توماني توري، حيث برروا خطوتهم بأن حكومته لم تدعم بشكل كاف المعركة التي يخوضها الجيش ضد تمرد يحرز تقدما بقيادة الطوارق في الشمال الذي يعج بالأسلحة والمقاتلين الذين كانوا موالين للقذافي ثم فروا من ليبيا.
وكان ينظر إلى مالي، ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا وأكبر منتج للقطن في القارة وفي العالم على نطاق أوسع، على أنها دولة ديمقراطية مستقرة نسبيا في منطقة مضطربة بشكل دائم تلازمها الانقلابات والعصيان المدني منذ عقود.
وتعتبر هذه الدولة المحاذية للجزائر حليفا للحكومات الإقليمية والغربية في جهودها لمنع الهجمات وعمليات الخطف التي يقوم بها متشددون مرتبطون بالقاعدة من الانتقال جنوبا عبر الصحراء، ويتسبب مثل هذا العنف بالفعل في إراقة الدماء في نيجيريا أكبر منتج للنفط في أفريقيا على يد جماعة بوكو حرام.
ويقول محللون إن هذا الأمر مؤسف بالنسبة لمالي، لأنه سيغرق إحدى أكثر الدول استقرارا في غرب أفريقيا في حالة من الفوضى. ويعتقدون أنه من الأجدى ألا تحل النزاعات بين الفرقاء السياسيين بالأسلحة لأنها إشارة سيئة لدول أخرى في مرحلة تعزيز الديمقراطية فيها بالمنطقة.
ويرى الخبير المغربي في الشؤون الاستراتيجية والأمنية والمختص في الشأن الأفريقي، الشرقاوي الروداني، أن ما وقع بمالي ليس بجديد على اعتبار انقلاب 2012 على الرئيس أتيتي أمادو تراوري، وبعدها كان انتخاب الرئيس كيتا سنة 2013، مشددا على أن المشكلة في هذه الدولة بنيوية كون الواقع يؤكد أن هناك دولة وليست هناك أمة.
وقال الردواني لـ”العرب”، إن “الإثنية والطائفية المتواجدة بمالي والمشكِّلَة للنسيج المجتمعي تعيش بشكل متناثر ومتطاحن يعكسه التناحر الكبير بين مجموعات كالدوغو والإيبول البومبايا، والذي سهل ذلك تواجد الجهاديين في الجهة الشمالية”.
وكان تحالف متنوع من رجال دين وسياسيين وشخصيات من المجتمع المدني تحت اسم “حركة 5 يونيو – تجمع القوى الوطنية في مالي”، ويعتبر الإمام النافذ ديكو أبرز الأسماء فيه، قد تشكل قبل أشهر وهو يطالب برحيل الرئيس كيتا، الذي انتخب في 2013 ثم أعيد انتخابه في 2018 لخمس سنوات.
وفي ظل ذلك، تزايدت مشاكل مالي السياسية والاجتماعية إلى جانب ضعف تنوع أنشطتها الاقتصادية ما يجعلها فريسة للفقر والإرهاب، خصوصا وأنها تعاني من أزمات كثيرة ولا حصر لها.
وأكد الروداني أن مالي مهمة جيوسياسيا في محيط دول غرب أفريقيا على اعتبار أنها محاذية لمجموعة من الدول مثل موريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو وأي حالة عدم استقرار ستؤدي إلى تدهور الأوضاع في الساحل وجنوب الصحراء.
وتوفر دول وازنة مثل فرنسا والولايات المتحدة تدريبا للجيش المالي على مكافحة الإرهاب. كما أنها تقدم دعما كبيرا للحكومة لدحر الجماعات المتشددة التي لا تزال تتحرك في مساحات شاسعة في البلاد، ولكن الانقلاب الذي نفذه، في ما يبدو ضباط كبار، سيضع نهاية لمثل هذا الدعم في الوقت الحالي.
وبعد أن علق الاتحاد الأفريقي عضوية مالي، فمن المتوقع أن يُعلق أيضا البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي والمفوضية الأوروبية وغيرها من الجهات الدولية المانحة المعونات المالية، وهذا الأمر قد يستغله المعارضون لصالحهم بحيث يحاولون التأثير على الناس بأن الحل يجب أن يأتي من الداخل وليس من الخارج.
استنساخ تجربة السودان
يستبعد البعض من المحللين أن يكون الانقلاب في مالي استنساخا لتجربة السودان، لأن الأوضاع تبدو مختلفة. فالبشير ذو الخلفية الإسلامية كان يسيطر على الدولة من منطلق أن الإسلام السياسي هو الحل، ولطالما كان يستغل الظروف المتقلبة في المنطقة لصالحه حتى أطاح به العسكر وتتولى حكومة انتقالية، شق منها مدني، إدارة دواليب الدولة.
وأما في مالي، فإن الوضع على العكس منذ ذلك، لأن إشارة الانقلاب تدل على أن المعارضة التي تتلون بشق إسلامي متمثل في ديكو قد يعقد الخروج من المأزق السياسي سريعا وسيعيد خلق الأوراق للفاعلين السياسيين الدوليين في المنطقة التي يبدو أنها ستشهد فترة ساخنة.
ويرى خبراء في العلاقات الدولية، أن ما يحدث داخل مالي لن ينتهي إلى حلول آنية وسريعة والمرور الآمن نحو مستقبل خال من الأزمات، بل ستكون هناك انقلابات أخرى قد تكون دموية عكس ما حدث الثلاثاء 18 أغسطس.
ويقول الروداني، إنه لا بد من رؤية استراتيجية كبيرة تشمل الأبعاد الاجتماعية والإثنية والطائفية وتواجد الجماعات الإرهابية التي تنشط بشكل كبير في محور بين الحدود النيجيرية والبوركينابية على اعتبار أن جميع الدول المحاذية لمالي أغلقت حدودها.
وهذا الأمر يعطي تلميحات واضحة بأن هناك مشكلة كبيرة وهي تواجد أسلحة بكميات كبيرة تقدر بثمانية ملايين سلاح خفيف دخلت من ليبيا إلى مالي بعد سقوط نظام معمر القدافي.
وتعهد قادة الانقلاب بإعادة السلطة إلى رئيس منتخب ديمقراطيا “بمجرد إعادة توحيد البلاد”، ولكن متمردي الطوارق في الشمال الذين تسببت هزيمتهم للجيش المالي في الانقلاب في باماكو قد يندفعون نحو الجنوب مرة أخرى منتهزين حالة الاضطراب.
ولا يستطيع قادة الانقلاب، في ما يبدو، السيطرة على جنودهم مما نتج عنه قيامهم بالنهب وإطلاق النار العشوائي في الشوارع الأمر الذي لا يبشر بالخير في المستقبل القريب.
ويبرر الانقلابيون عمليتهم بما يحدث داخل مالي من فوضى وعدم استقرار، ما دفعهم للتحرك لإنقاذ الشعب. وقال الناطق باسم العسكريين الكولونيل إسماعيل واغي، مساعد رئيس أركان سلاح الجو، “لقد قررنا تحمل مسؤولياتنا أمام الشعب وأمام التاريخ”، مؤكدا أن العسكريين يريدون تأمين انتقال سياسي مدني ينبغي أن يؤدي إلى انتخابات عامة خلال مهملة معقولة.
ويعتقد الروداني أن إعادة الانتخابات ليست هي الحل، وأن الحل يكمن في خلق دولة أمة ووجود رؤية دولية من أجل تفاهمات استراتيجية حول الأمور المرتبطة بالأمن والاستقرار في مالي، وكانت هناك انتخابات في 20 ديسمبر 2019 وانتخابات مؤخرا لم تقبل بنتائجها المعارضة.
والمشكلة حسب الخبير المغربي، ليست سياسية محضة على اعتبار تدهور الحالة الاجتماعية وفراغات جيوسياسية وتدخل ما يسمى باقتصاد الإرهاب مع اقتصاد الدولة وبالتالي أصبحت الأمور على كف عفريت بالمنطقة المحيطة بمالي.
وقال إن “الحل بدول ساحل جنوب الصحراء يكمن في دحض جميع التوترات داخل المنطقة خاصة المشكلة الليبية التي أصبحت تؤثر بشكل كبير في أمن واستقرار دول الساحل في محور مالي، بوركينا فاسو، النيجر، غينيا الاستوائية،غينيا كوناكري ونيجيريا، حيث هناك تواجد للجماعات الإرهابية”.
لقد مر شهران منذ أن اندلعت أزمة سياسية غير مسبوقة في البلاد ساهمت في تفاقم الوضع مع أزمات اجتماعية وسياسية خطيرة. كما ضاعف ائتلاف من المعارضين السياسيين والمرشدين الدينيين وأعضاء المجتمع المدني من حركة المظاهرات للمطالبة برحيل الرئيس كيتا المتهم بسوء الإدارة.
ونتيجة لتلك المقدمات اندلع تمرد العسكريين صباح الثلاثاء في ثكنة كاتي العسكرية بالقرب من باماكو، ثم توافق العسكريون المنقلبون على الرئيس مع المتظاهرين، الذين ظلوا يطالبون باستقالته منذ شهور، قبل إلقاء القبض عليه إلى جانب رئيس وزرائه بوبو سيسي في باماكو.
ورغم أن الانقلابيين يؤكدون أنه ستكون هناك مرحلة انتقالية وأنهم سيتولون السلطة الشاغرة الآن، إلا أنه بالنسبة لعيسى كاو نجيم، المنسق العام لتنسيق الحركات والجمعيات والمتعاطفين مع الإمام ديكو، وهي منظمة على رأس حركة 5 يونيو، فإن التحول الديمقراطي أمر ضروري مشيرا إلى أن المعارضة تدرج نفسها في إطار الشرعية دون أن يكون هذا الصراع شخصيًا وإنما لتحقيق الديمقراطية.
ويبدو أن ما يعرقل أي حل سياسي دائم حتى وإن تمت إعادة انتخابات تشريعية، تواجد العنصر الإرهابي كلاعب أساسي بمنطقة الساحل والصحراء ومالي بشكل خاص، ولهذا لا يمكن التعويل على هذا الانقلاب كحل سحري للوضع المتأزم اجتماعيا واقتصاديا بل قد يعقد الوضع أكثر.
وعلى هذا المستوى، يوضح الروداني، تواجد أربعة تقاطعات للجماعات الإرهابية بمالي، هناك تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى وعدنان أبوالوليد الصحراوي وإياد أغ غالي وأنصار الإسلام وجماعات أخرى تتاجر في السلاح والمخدرات والذهب وغيرها من المعادن النفيسة. زيادة على ذلك، هناك صراع كبير بين الإثنيات المسلحة، حيث أضحى الإرهاب ثقافة.
وعليه فاستقرار الوضع بمالي لن يحدث مع تواجد القوى المحدثة للفوضى التي تتضمن الجماعات الإرهابية والعابرة للحدود، كما يرى الروداني، هذه الأخيرة أدت إلى تدهور الوضع بمالي وستزيد من حدة الأنشطة الإرهابية، متوقعا أن الأمور ستتعقد أكثر.
لم تمر الحركة الانقلابية في مالي دون ردود فعل متباينة على المستوى الدولي والإقليمي، حيث أدانت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا التي تضم 15 بلدا إطاحة “عسكريين انقلابيين” بحكومة الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا المنتخبة ديمقراطيا.
وأكدت أنّها لا تعترف بأي شكل من الأشكال بالانقلابيين وتطالب بإعادة النظام الدستوري فوراً وبالإفراج الفوري عن رئيس الدولة ورئيس وزرائه وعن جميع المسؤولين المعتقلين ومتوعّدة إياهم بسلسلة إجراءات بما فيها عقوبات مالية.
أما المغرب فلطالما دعا جميع الفرقاء السياسيين والدينيين بمالي إلى الحوار كآلية لتجاوز الإشكالات من أجل وحدة البلاد واستقرارها. وبعد الانقلاب الذي حصل على الرئيس وحكومته أكدت وزارة الخارجية أن الرباط متمسكة باستقرار هذا البلد، وحثت مختلف الأطراف على حوار مسؤول، في ظل احترام النظام الدستوري والحفاظ على المكتسبات الديمقراطية، من أجل تجنب أي تراجع من شأنه أن يضر بالشعب المالي.
كما أعلنت الجزائر في بيان، الأربعاء، رفضها القاطع لأي تغيير غير دستوري للحكم في جارتها الجنوبية مالي، بعد الإطاحة بالرئيس أبوبكر كيتا.
وقالت إنها ترفض أي تغيير لاسيما بيان الجزائر لسنة 1999 والميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم الرشيد لسنة 2007، كما شددت على أنه لا يمكن خرق عقيدة الاتحاد الأفريقي في مجال احترام النظام الدستوري؛ فالصناديق وحدها هي الطريق للوصول إلى الحكم.
وأثار تحرك المتمردين أيضا الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا، حيث ينتشر 5100 جندي منهم في منطقة الساحل، ولاسيما في مالي، كجزء من عملية برخان ضد الجهاديين.
وبينما دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى الإفراج فورا وبلا شروط عن الرئيس المالي وإعادة النظام الدستوري فورا، أكد المبعوث الأميركي لمنطقة الساحل بيتر فام أن إدارة دونالد ترامب تعارض أي تغيير خارج الدستور للحكومة، سواء من قبل أولئك المتمردين في الشوارع أو من قبل قوات الجيش.
العرب