يشهد العراق موجه جديدة من مسلسل الاغتيالات بطلها المسدس الكاتم الذي يستخدمه القتلة وهم يلوذون بالفرار على دراجات نارية وضح النهار، تلاحقهم الوجوه المصدومة والعيون المتسمّرة على مشهد الضحايا، وجلّهم ناشطون شباب. صور القتلة الذين يرتدي بعضهم ملابس تنكرية كبدلات العمل أو الخدمة التي يخالها البعض لعمال النظافة أو عمال الخدمات فخدعتهم، تخفي وجهاً آخر للموت الكامن في عقول أولئك الملثمين المنفذين لأجندات القتل الممنهج في معظم الأحيان، والذين قبضوا ثمن موت ضحاياهم مسبقاً.
البصرة مشهد الفجائع اليومي
لا ينقضي يوم في البصرة، أقصى الجنوب العراقي، إلا وتسمع طلقات تصفية لناشط مدني أو مكلف بأداء خدمة مجتمعية عامة، وقد لا تسمع سوى صراخ ذريته لأنهم اغتالوه بمسدس كاتم، ولم يفرّق القتل والقتلة بين رجل وامرأة، فهو نتاج خسّة الطباع وتدني المروءة، لا فرق أمام فوهة الكاتم بين شاب وكهل، فهناك أوامر يتلقاها هؤلاء المجرمون الذين احترفوا مهنة تصفية المدنيين في الشوارع والطرقات العامة وقرب البيوت، لحساب أسيادهم.
المستهدفون غالباً ناشطون ومحتجون مدنيون تحاول أحزاب السلطة أن توقف أصواتهم المنادية بالحرية والعدالة وتأمين العيش الكريم أو إعلان الحرب على الفساد، فباتت التظاهرات والاحتجاجات المتواصلة والمتجددة العدو الأول في أجندة الميليشيات المنبثّة في الشوارع والأحياء المحتمية بمسميات أحزاب السلطة، وأكثر من 50 ميليشيا تمكنت من توظيف أتباعها ومريديها في نظام “مافيوي”، تتحكم فيه رؤوس مؤدلجة ترفع شعارات ما عادت مستساغة من عامة الشعب الغاضب على واقع مرير، الذي لا يتوانى عن حرق مقارها ومكامنها، وإعلان غضب جماهيري متأصل على وجودها.
المتظاهرون هدف مستمر للميليشيات
بات المتظاهرون المحتجون هدفاً معلناً للقتل في شوارع الموت العراقية، يتحيّن المكلفون الفرص لاغتيالهم علناً بظاهرة التربص بهم، واستخدام الشبكة الهاتفية واختراقها لمعرفة تحركاتهم، وهي خبرة ليست عراقية بل مستجدة وافدة على المجتمع العراقي الذي يوصف بالتماسك العشائري والمناطقي، لكن ظاهرة العنف تشي بأن حرب شوارع شعواء بين “مافيات” الفساد السياسي المسلحة والناشطين المدنيين تتواصل وتنتشر كسحب الدخان في المدن العراقية لاسيما الجنوبية، حيث يتصاعد دخان حرق أبخرة وغازات النفط في البصرة، دون جدوى من إيقافها بالأصوات التي تتعالى منددة بما يحدث من دعوات حكومية وبرلمانية لوقف هذا الهدر والخروق الأمنية المتكررة.
القتل مواسم في العراق، بدأ باغتيال وخطف الصحافيين والإعلاميين العراقيين الذي فاق كل التصورات، ليصل إلى أعلى نسبة اغتيال في العالم بلغت أكثر من 450 صحافياً وإعلامياً مساعداً، أولهم نقيب الصحافيين العراقيين الراحل شهاب التميمي، الذي اغتيل عند خروجه من مقر النقابة على أيدي مجهولين أطلقوا النار عليه من مسدس كاتم، وتلاه المئات ممن اختلفت معهم السلطة، وساقتهم حتوفهم للتصفية الجسدية من جهة، وكانوا ضحايا الإرهاب بفعل عناصر “القاعدة وداعش”، وميليشيات أخرى خارج القانون، ما ترك أبلغ الأثر في نفوس العراقيين، تلاه مسلسل تصفية الناشطين والأكاديميين التي أثبتت التحقيقات أنه قتل ممنهج، وبقوائم معدة سلفاً، آخرها اغتيال الإعلامي والخبير الأمني هشام الهاشمي أمام بيته في بغداد، وبالرغم من أن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وعد بأن يكون ولي الدم لصديقه الهاشمي، وإجراء تحقيقات شاملة لكشف المنفذين والمحرضين على اغتياله، لكن القضية لا زالت مسجلة ضد مجهول، ما يعطي انطباعاً لدى العامة بأن قرار التصفية والتنفيذ وراءه جهات منظمة وفاعلة ومحترفة.
استهداف المحتجين أوسع عمليات الاغتيال
لكن مهرجان الاغتيالات الأكثر دموية حدث إبان احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي، خلال حكومة عادل عبدالمهدي التي جابهت تلك الاحتجاجات والتظاهرات بالعنف المفرط، وظنت أنها ستخيف المتظاهرين، وأسقطت أكثر من 600 شاب وآلاف الجرحى الذين كانوا يحتجون في بغداد والناصرية والبصرة وميسان والنجف وكربلاء والمثنى والديوانية وسواها من المدن ذات الغالبية الشيعية. وظنّ عبدالمهدي وحكومته أنهم سيوقفونها عبثاً حتى أسقطته بعد حرق قنصليات إيران، وحرق مقار الأحزاب الإسلامية، وكادت تقع حرب أهلية لولا تدخلات داخلية ودولية عجلت بإسقاط تلك الحكومة التي توّجت تاريخها بظاهرة الاغتيال السياسي الحكومي الذي سجلته بـ “الطرف الثالث” حتى لا تلقي التهمة على أفرادها ومنتسبيها.
ويرى عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق علي أكرم البياتي أن ما جرى يصنف ضمن “جرائم الإرهاب الحكومي المسؤولة عنه الحكومة العراقية وقتها، فهي المعنية بتوفير الحماية الكاملة والملزمة للمواطن العراقي، وهي المتهمة أيضاً بالتقصير، وتقع عليها مسؤولية كشف تلك الجرائم تنفيذاً وتخطيطاً”.
وإذا كانت الحكومة ترى أنها نسبت تلك الاغتيالات والجرائم خلال حكومة عادل عبد المهدي السابقة المستقيلة قسراً إلى ما سمّته بـ “الطرف الثالث”، فإن ذلك لا يسقط مسؤوليتها عنها، ويرى البياتي أن “نظرية الطرف الثالث كانت نظرية سياسية، ودليل ضعف الحكومة، وتكشف عن وجود أزمة سياسية بل انهيار سياسي، فقد أسقطت الاحتجاجات توافقية القرار للحكومة التوافقية بطبيعتها حين أدت الاحتجاجات إلى إسقاطها واستقالتها والشروع بقانون جديد للانتخابات”.
مسؤولية المؤسسات الأمنية السبع عن وقائع القتل
ويتهم مراقبون متخصصون في السلوك السياسي المؤسسات الأمنية السبع المعنية بالأمن الوقائي في البلاد بالتقصير الواضح في أدائها، واختراقها من جهات تحول دون كشف الجرائم التي تستهدف الناشطين والمحتجين، واتخاذ الاحتياطات والتدابير الضرورية قبل وقوع تلك العمليات الإجرامية، والحؤول دون ذلك، ويعزون ذلك إلى التحريض المسبق في خطاب الحكومة التي تتهم الناشطين وتصفهم بـ “مندسين وعملاء ينفذون أجندات أجنبية”، على حدّ قولها، من دون مراعاة إشاعة أولوية داخل أروقة السياسة العراقية لحماية أمن المواطن حياته، وعدم تمكين العصابات الإجرامية من استهدافه بالمسوغات والتوصيفات المحرضة الواردة.
بشاعة ردود الأفعال الإجرامية إزاء الناشطين العراقيين المدنيين تعدت الأطر التقليدية التي شهدها العالم إلى سلسلة من عمليات الاغتيال والخطف والتغييب والترويع اليومي، بإطلاق النار وقصف المنازل واستخدام عجلات الدولة الرسمية، وارتداء البدلات الرسمية أثناء المداهمات الليلية من خلال استخدام مواكب من سيارات الدولة لإيهام المستهدفين، واستخدام الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والمسدسات المجهزة بكاتم الصوت، وغالبيتها مسروقة أو معارة من مخازن الحكومة وبهوياتها الرسمية، ما يجعل المواطن في ارتباك وحيرة، من دون أوامر قضائية، تتضح نتائجها من الجثث التي ترمى أمام بيوت المستهدفين أو الشوارع الخلفية، في مشهد اعتاد الناس أن يروه عبر كاميرات المنازل التي انتشرت بكثرة، وغالباً ما تنشر تلك العمليات على “فيسبوك” أمام مرأى ومسمع الجميع، لتضيف لمشهد القتل الترويع والعنف صوراً أخرى من المآسي التي اعتاد المجتمع العراقي مشاهدتها منذ أول قذيفة سقطت على بغداد عام 2003.
تعددية مشاهد القتل والجاني واحد
وتفنّن القتلة بممارسات الإجرام، فمن مسلسلات قتل الأطباء وأساتذة الجامعات إلى مشاهد قتل بائعي المشروبات الروحية، وأخرى مروعة في اختطاف الصاغة والتجار للحصول على الفدية، تلاه خطف وتصفية طبيبات التجميل وعارضات الأزياء والفنانات والجميلات، وهي مواسم صار الناس يتذكرونها ويحتفظون بوجوه المئات من الضحايا على هواتفهم النقالة، لكن الجرائم مازالت مسجلة ضد مجهول!
ويلاحظ أن ماكينة القتل والإجرام في العراق لم تقف عن بيئة محددة، بل شملت عموم بيئات العراق الذي يعاني تراجع في مستوى الأمن فيه، وغياب وسائل الردع التي تحول دون تمادي المجرمين وممارسة استهداف قطاعات عدة نتيجة عاملين رئيسين، الأول هو تعددية القرار الأمني وعدم انسجام كوادره بعد قرار “الدمج” بين الموظفين المسلكيين وعناصر المعارضة الخارجية التي منحت رتباً تصل حدّ لواء، وفريق في أجهزة الأمن الداخلي من دون خدمة وظيفية، لأولئك الذين قدموا من الخارج، لا سيما من الحاضنة الإيرانية أيام كانوا معارضين لنظام الرئيس صدام حسين، والسبب الثاني هو ضعف الكفاءة المهنية للمحققين والمشتغلين في المؤسسة الأمنية بعد حلّ جهاز الدولة السابقة، وفقدان تلك المؤسسة كوادرها المهنية، إضافة الى ضعف المراقبة على أداء الجهاز الأمني نتيجة تعدد الولاءات فيه وتشظي القرار المركزي، وتداخل السلطات الحكومية وغير الحكومية الذي أنتج فوضى “غير خلاقة” كما تمنت وزيرة خارجية أميركا غونداليزا رايس، التي توقعت إحداث فوضى خلاقة في العراق بعد الاحتلال 2003، لكنها أنتجت مجتمعاً تسيطر عليه الميليشيات وتهدد وجوده.
صباح ناهي
اندبندت عربي