يصعب تاريخ طويل من الانقسامات بين الفرقاء الفلسطينيين الوصول إلى حل ينهي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أو يحيي آمال إقامة دولة فلسطينية، على رغم الجهود العربية لتحريك الجمود السياسي في هذا الملف، تجسد مؤخرا في إعلان دولة الإمارات العربية المتحدة عن اتفاق سلام وصفه المتابعون بـ”التاريخي” مع تل أبيب، هدفه دعم العملية السلمية وإنقاذ حل الدولتين من الانهيار، إضافة إلى اشتراط على الطرف الإسرائيلي التخلي عن الأطماع الجديدة بأراضي الضفة الغربية وغور الأردن.
وعلى الرغم من الجهود الإماراتية، فإن إحداث تقدم في عملية السلام يبقى رهن التوازنات الداخلية، ففي ظل غياب موقف موحد وتشتت القرار، تضيع فرص الحوار والحلول المستقبلية، في حين يبقى الشارع ضحية الانقسامات التي تعمق صعوباته المعيشية، ويتحمل بمفرده وزر لا دولة تسير به إلى أفق غامض.
وبدأ الانقسام الفلسطيني منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة بسبب خلافات حادة مع حركة فتح في يونيو 2007. فيما تدير حركة فتح التي يتزعمها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الضفة الغربية، ولم تفلح العديد من الوساطات والاتفاقيات في إنهاء حالة الانقسام وتحقيق الوحدة.
ويرى متابعون أن الأزمة بين فتح وحماس تتجاوز مجرد خلافات في الرؤى إلى صراع على النفوذ بينهما، فحماس ترنو إلى أن تكون جزءا أساسيا من مشهدية السلطة، إن لم يكن المتحكم بكامل خ يوطها، وهي تلقى في ذلك تشجيعا ودعما من قوى إقليمية، في المقابل فإن فتح التي تستند إلى نوع من المشروعية التاريخية تكابد للحفاظ على مفتاح السلطة “المهترئة” بيدها.
وعلى الرغم من التقارب الذي ظهر مؤخرا بين الجانبين اللذين اتفقا على مواجهة مشتركة لخطة الضم الإسرائيلية، يبقى الشرخ الفلسطيني عميقا بعد أن تعثر طريق المصالحة مرة أخرى، بإعلان تأجيل مؤتمر المصالحة في غزة وهي الخطوة التي أعلن عنها صلاح البردويل عضو المكتب السياسي لحركة حماس نهاية يوليو الماضي. ويرجح متابعون تأجيل مؤتمر المصالحة مرة أخرى إلى رفض شق داخل حماس هذه الخطوة.
صعوبات أكبر
في ضوء استمرار الخلافات الداخلية، استبعد كتاب ومحللون أي حل للقضية على المدى المنظور، ورجحوا استمرار الصراع مع إسرائيل لعقود قادمة وبالتالي عدم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
وحسب ما ذهب إليه الكاتب العراقي فاروق يوسف، في خضم هذا الصراع فقد الفلسطينيون قياداتهم التاريخية واستلم القضية رجال أعمال مهنيون هم على قدر من الحرفة التي لا تمت بصلة إلى قرار المصير الفلسطيني وانفتح الواقع على مآلات مختلفة.
ويرى يوسف أن “كل واحد منها ينفي الأخريات فكانت المتاهة الفلسطينية تزداد سعة وتكثر دروبها في ظل انسداد الأفق للوصول إلى حل سياسي بعد أن وضع اتفاق أوسلو نهاية للكفاح المسلح الذي قاد إلى نتائج مشرفة”.
وتابع “لم يكن الفلسطينيون في حاجة إلى وصاية عربية. كانت تلك خطوة في طريق إعلان رشدهم السياسي. وكان محمود عباس الرئيس الحالي رائدا في ذلك، حيث دبر كل شيء في أوسلو بالتشاور مع القيادة الفلسطينية وهو ما فاجأ الكثير من الأنظمة العربية التي اعتبرت اتفاقية أوسلو خيانة لقضية العرب المركزية ونددت بها غير أنها تواضعت في ما بعد لتعتبر السلطة التي انبعثت من لا شيء الممكن الذي يجب عدم تضييعه”.
سياسة إسرائيل تجاه فلسطين تتمثل بالحصول على أكبر قدر ممكن من الجغرافيا الفلسطينية وأقل قدر ممكن من ديموغرافيتها
وتوقع الخبراء أن تجد تل أبيب الظروف مواتية لاستكمال مخططاتها في رسم شكل الدولة اليهودية وفرض خارطتها السياسية على الأرض، مستغلة حالة الضعف التي يعيشها الفلسطينيون على صعيد داخلي، إضافة إلى تداعيات التدخلات الخارجية.
وتواجه القضية الأولى بالنسبة للعالم العربي، تحديات خارجية التي تتجسد في متاجرة تركيا وإيران بالقضية منذ زمن، فهما تستغلان حماس التي تدعمانها، لتمرير أجندتهما وتعطيل أي حلول سياسية ممكن أن يعمل عليها محور الاعتدال العربي في المنطقة. وتمارس هذه الأطراف ضغوطا على حماس لإقناعها في كل مرة بالتراجع عن المصالحة التي تلعب القاهرة دور الوسيط فيها.
وحسب المتابعين، يكرس استقواء حماس بإيران، تركيا وقطر الانقسام الفلسطيني، بالتالي يشكل هذا المحور حجرة عثرة في طريق السلام المنشود، باستثماره الانقسام كورقة لتعزيز نفوذه أكثر فأكثر.
ويلفت الكاتب اللبناني خيرالله خيرالله بالقول إنه “بعد 2003، لم تعد فلسطين القضيّة المركزية لا للعرب ولا لغير العرب. لم تعد سوى قضيّة إيرانية أو تركية تستخدم في لعبة ذات طابع تجاري يتقنها الإيراني الذي سار التركي في ركابه، بعد وصول رجب طيب أردوغان إلى الرئاسة”.
وتابع متسائلا “ماذا فعل أردوغان لفلسطين والفلسطينيين غير تكريس الحصار الإسرائيلي لغزّة وأهلها وتحويلها إلى سجن في الهواء الطلق؟ حاول الرئيس التركي في العام 2010 فكّ الحصار عن غزّة فأرسل سفينة فيها عدد من المتطوعين ومواد إغاثة. ماذا كانت النتيجة بعد تصدّي إسرائيل للسفينة؟ تراجع أردوغان وأعاد العلاقات مع إسرائيل إلى طبيعتها، فيما أهل غزّة مازالوا يقبعون في سجنهم الكبير بحماية ‘حماس’ ورعايتها!”.
ولطالما طالت تركيا انتقادات لاذعة نتيجة مواقفها المتناقضة في ما يخص القضية الفلسطينية، باستخدام النظام التركي شعارات المقاومة الفضفاضة علنا فيما يبرم الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية سرا.
صراع مستمر
توقع متابعون أن يواجه الفلسطينيون صعوبات أكبر مستقبلا في ظل وجود محاور وقوى إقليمية تحاول جذب أطراف فلسطينية هنا أو هناك إلى صفها، وفي ظل عدم وحدة الصف الفلسطيني.
وللصعوبات المستقبلية وجهان؛ الأول في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي عبر المقاومة الشعبية، والثاني في تقديم الرواية الفلسطينية بالجهد الدبلوماسي أمام العالم. ويستبعد المحلل الفلسطيني جهاد حرب، في المدى المنظور، مواجهات موسعة مع الاحتلال لما يراه غيابا للأطر القيادية، بالإضافة إلى غياب عنصر الثقة ما بين الجمهور والقيادة، وهذا يعني عدم تقديم التضحية.
لكنه مع ذلك يتوقع موجات من المواجهة ذات الطابع السلمي أحيانا، والعنيف أحيانا أخرى، مضيفا “مادام الاحتلال الإسرائيلي موجودا فهناك موجات مختلفة من المواجهة شكلها مرتبط بالظروف الزمنية والتبعات المتخلقة عنها”.
أما عن مستقبل السلطة الفلسطينية فقال “مادامت القيادة الفلسطينية ملتزمة بمعايير وشروط الاتفاقيات، ومادامت إسرائيل لا تذهب لإنهاء السلطة بشكل كلي، فإنها ستبقى سلطة ضعيفة غير قادرة على تجسيد الدولة من ناحية، وغير قادرة على قيادة آليات مواجهة الاحتلال من ناحية ثانية”.
وتشكل الظروف المعيشية الصعبة وتردي الأوضاع الصحية أعقاب ظهور أزمة وباء كورونا، إضافة إلى مواجهة الاستفزازات الإسرائيلية، أبرز دوافع أي تصعيد جديد في الأراضي الفلسطينية.
حينما تطغى الحسابات الضيقة على القضية
حينما تطغى الحسابات الضيقة على القضية
ويتوقع الباحث الفلسطيني بمؤسسة “يبوس” للاستشارات والدراسات الإستراتيجية، سليمان بشارات أن اندلاع حالة من التصعيد الشعبي الفلسطينية على غرار الانتفاضة الأولى والثانية “قد يكون سببا في خلط الأوراق السياسية لدى إسرائيل، وكذلك الأمر بالمنطقة، وبالتالي الحد من السيناريو السلبي”.
واستنتج أنه “بإعادة الدور السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، بعد إعادة الثقة لها بالطرق التوافقية أو الانتخابية، يمكن أن تتشكل أولى ضمانات القوة لتبقى القضية الفلسطينية في مقدمة الاهتمامات”.
أما الكاتب خالد العمايرة فيجزم أن القضية الفلسطينية سوف تستمر تراوح مكانها إلى وقت طويل “ربما عدة عقود، وربما أكثر من قرن، لأنها أصبحت تأخذ طابعا تاريخيا”. وعن مستقبل السلطة الفلسطينية قال العمايرة إن “الاحتلال موجود ويعيشه الفلسطينيون، ويتعزز أكثر فأكثر، ووجود السلطة شكلي وتجميلي”. ولخص السياسة الإسرائيلية تجاه فلسطين بأنها تتمثل “بالحصول على أكبر قدر ممكن من الجغرافيا الفلسطينية وأقل قدر ممكن من الديموغرافيا الفلسطينية”.
صحيفة العرب