يتطلع صناع السياسة في أنحاء العالم للتحرر من سيطرة الدولار، لأن الارتباط بهذه العملة الأميركية يحرمهم من عدة مزايا قد يحصلون عليها في حال تراجع قيمة عملتهم المحلية.
وتقول صحيفة “الإيكونوميست” (The Economist) البريطانية في تقرير لها، إن انهيار العملات يعتبر حدثا سلبيا، لأنه يجعل الواردات أكثر كلفة، إلى جانب التسبب بتدهور مستوى معيشة الأفراد، وزيادة كلفة التجارة.
ورغم ذلك فإن خبراء الاقتصاد لطالما اعتبروا أن هذا الإشكال يحمل في طياته بذور الخلاص، لأن ارتفاع كلفة الواردات الخارجية يدفع الدول نحو التوجه لاستهلاك الإنتاج المحلي، وبالتالي تشغيل مزيد من العمال وتنشيط الاقتصاد، إضافة إلى ذلك فإن تراجع قيمة العملة المحلية يعني أن الصادرات ستصبح أرخص بالنسبة للزبائن الآخرين، وهو أيضا يعزز الطلب على الإنتاج المحلي.
وعلى سبيل المثال عندما انهارت قيمة البيزو الكولومبي في صيف 2014، توقع وزير المالية حينها أن هذا التراجع سيكون فرصة جيدة لتنشيط الاقتصاد المحلي، إلا أن الأمور لم تجر على هذا النحو، بسبب مجموعة من المشاكل الهيكلية التي يعاني منها هذا البلد، وبسبب مشكلة أخرى يعاني منها النظام التجاري العالمي أيضا.
إذ إن كولومبيا لا تجري مبادلاتها التجارية مع بقية الدول والشركات بالعملة المحلية البيزو، بل هي تتاجر بشكل شبه كلي بالدولار الأميركي.
هذا الارتباط الكبير لحركة التجارة العالمية بالدولار، يؤدي لتقويض بعض الامتيازات والفوائد التي يمكن أن تجنيها اقتصاديات الدول من المرونة في ضبط أسعار العملة، كما أنه عندما ترتفع قيمة الدولار، تتجه التجارة العالمية نحو الانكماش.
عملة مسيطرة
وتوضح الصحيفة أن نموذج التجارة والعملات في العالم لخصه الباحثان روبرت ماندل وماركوس فليمينغ في ستينيات القرن الماضي، حين اعتبرا أنه في حال عدم وجود أي دور للعملة المسيطرة على السوق العالمي، يفترض أن يتفق طرفا كل صفقة تجارية على ضبط الأسعار باستخدام عملة البائع.
لو سارت الأمور بهذا الشكل فإنه بعد انهيار العملة الكولومبية على سبيل المثال، فإن البضائع التي يصدرها هذا البلد ستصبح رخيصة وستجد إقبالا كثيرا، وفي الأثناء فإن الكولومبيين الذين يريدون شراء ملابس من صنع برازيلي سوف ينزعجون من ارتفاع ثمن هذه البضاعة المستوردة، ويتجهون للإنتاج المحلي.
ولاحظ علماء الاقتصاد منذ منتصف القرن الماضي أن العملة التي تختارها الشركات لإرسال الفواتير لبعضها بعضا يمكن أن تؤثر على ارتفاع أو انخفاض المصروفات، فإذا كانت أسعار الصادرات الكولومبية يتم تحديدها بالدولار وليس البيزو المحلي، فإن انخفاض هذه العملة المحلية لن يؤثر على الأسعار التي يشتري بها الموردون الأميركيون، وبالتالي لن يكون هنالك ارتفاع في الطلب.
ويلاحظ العلماء دائما أن أسعار البضائع لا تتغير بالقيمة أو السرعة المنتظرة نفسيهما، عندما تكون المعاملات التجارية بين البلدين لا تعتمد على العملة المحلية لكل منهما.
وفي السنوات الأخيرة قام باحثان من بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي في نيويورك بجمع بيانات، تخص 24 بلدا خلال الفترة في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، وأكدت نتائج بحثهما أن الصادرات غالبا لا يتم تسعيرها بعملة البلد الذي جاءت منه، إذ إن دولة كوريا الجنوبية على سبيل المثال في عام 2001 دفعت فواتير 82% من وارداتها بالدولار، رغم أن 16% فقط من هذه الواردات جاءت من الولايات المتحدة.
ويؤكد خبراء الاقتصاد هذه الاستنتاجات، حيث إن الدولار يلعب دورا كبيرا باعتباره “العملة القاطرة” التي تستخدم في التحويلات المالية وتسديد الفواتير حتى عندما لا تكون الولايات المتحدة طرفا في المعاملة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالدول النامية، إذ إن بيانات جمعها صندوق النقد الدولي تغطي حوالي نصف التجارة العالمية، أظهرت أن نصيب الدولار من الدفوعات كان 4.7 أضعاف نصيب الولايات المتحدة من الواردات، وثلاثة أضعاف نصيبها من الصادرات.
كما أظهرت دراسة أخرى أن نصيب الدولار في التجارة العالمية لم يتراجع رغم تراجع الدور الأميركي في هذه التجارة.
إعادة تقويم الدولار من خلال خفض قيمته يؤثر بشكل مباشر على الصادرات الأميركية التي تصبح أرخص في الأسواق الخارجية (غيتي)
التسعير بالدولار
تشير الصحيفة إلى أن دول الاتحاد الأوروبي عندما أصدرت عملة اليورو، كانت تأمل أن تحل محل الدولار في العالم، ولكن ذلك لم يحدث، إذ إن حجم الدفوعات التجارية التي تتم باليورو لا يزال يعتبر منطقيا مقارنة بحجم التجارة التي تقوم بها دول الاتحاد، وعلى سبيل المثال خلال الفترة من 1999 إلى 2014، كان حجم التجارة باليورو يعادل 1.2 ضعف نصيب فضاء الاتحاد الأوروبي من الواردات العالمية.
ويعتبر البعض أن استخدام عملة موحدة في ضبط الأسعار العالمية، يجنب الشركات الخسائر والمفاجآت غير السارة عند حدوث تقلبات في الأسواق، حيث يفضل كثيرون التسعير بالدولار في تجارة المعادن الثمينة، كما أن الاعتماد على الدولار في تسعير الصادرات والواردات يحفظ هامش الربح لدى المستثمرين ويحميهم من تكبد الخسائر في حالة انهيار العملة المحلية.
ولكن بحسب الصحيفة يبقى السؤال لماذا يجب أن تكون هذه العملة القاطرة هي الدولار؟ إذ إن هذه الورقة النقدية الخضراء تسيطر بشكل تام على أسواق المال في العالم، وتعتمد في تجارة الأسهم والسندات والتحويلات بين الدول وتسديد الدفوعات.
وتشير الصحيفة إلى أن هذا الوضع يسمح لأميركا بالتمتع بامتياز خاص جدا، حيث إن قيامها بإعادة تقويم الدولار من خلال خفض قيمته يؤثر بشكل مباشر على الصادرات الأميركية التي تصبح أرخص في الأسواق الخارجية.
وفي المقابل، فإن قيام دول أخرى بخفض قيمة عملتها أمام الدولار لا يساعدها في زيادة صادراتها، بل على العكس يسبب لها معاناة اقتصادية، حيث إنها تصبح غير قادرة على تحمل كلفة الاستيراد، ولا تحقق صادراتها أي جاذبية إضافية عند انخفاض عملتها.
هذه الوقائع الاقتصادية جعلت صنّاع السياسة في العالم يحلمون بالتخلص من سيطرة الدولار، ولكن هذا الأمر يبقى مستبعدا في المستقبل المنظور، إذ إن سطوة الدولار هي نتيجة الملايين من القرارات الفردية التي تلتقي كلها لتسبب هذا المشكل الجماعي.
المصدر : إيكونوميست