يجمع مراقبون على أن أزمة الوباء العالمية وقبلها الحرب التجارية الأميركية الصينية، واختلاف الرؤى بين الحليفين الإستراتيجيين، بروكسل وواشنطن، حول قضايا جوهرية، عززت منسوب القلق لدى دوائر صنع القرار الغربية من تنامي قوة بكين واكتسابها بعض التفوق في مجالات حيوية، وطرح علامات استفهام حول مدى قدرة الغرب على تفادي دفع ثمن تناقضاته أمام القوة الآسيوية الصاعدة.
لندن – تصارع الحكومات الديمقراطية في الغرب تنامي الصين، التي استغلت الخلافات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية العميقة بين الاتحاد الأوروبي وحليفتها الإستراتيجية الولايات المتحدة في عدة ملفات حساسة عاملها المشترك هو الأمن القومي.
وبلغت الانقسامات بين بروكسل وواشنطن ذروتها هذا الأسبوع بعدما اعترض مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة على مشروع قانون قدمته إندونيسيا، حول مقاضاة وإعادة تأهيل ودمج المقاتلين الأجانب دون أن يتطرق المشروع إلى إمكانية القيام بذلك في دولهم الأصلية.
وحتى قبل ذلك، كانت الخلافات في أوجها حينما انسحبت واشنطن من اتفاق إيران النووي، وزادت حدتها حول الاتهامات الموجهة للصين بزعزعة الاقتصاد العالمي عبر نشر فايروس كورونا المستجد وجعل الدول تغرق في مشكلات قد لا يستطيع أي مسؤول حلها في ظل التوترات الجيوإستراتيجية.
ويقول محللون إن ذلك التشرذم يختزل مدى عمق الهوة بين الحليفين، والتي قد تفضي إلى عرقلة جهودهما لمواجهة “التنين الصيني” الباحث عن استغلال الثغرات من أجل بسط نفوذه في مناطق حساسة من بحر الصين الجنوبي مرورا بالشرق الأوسط وصولا إلى الاتحاد الأوروبي وأميركا الجنوبية.
ولعل أزمة كورونا، التي جاءت على أنقاض حرب تجارية مستعرة بين الولايات المتحدة والصين، تعطي لمحة عن مدى تطويع بكين لتلك المشكلة في صالحها وجعلت محللين يقفون على حقيقة مفادها أن الصينيين لديهم هامش للمناورة والتحرك أكثر.
ويبدو برنامج “مبادرة الحزام والطريق” التجاري والإستراتيجي المشروع الأكثر طموحا لرئيس الحزب الشيوعي الصيني شي جين بينغ. وكان قد تم في بادئ الأمر الترويج له باعتباره إحياء للطريق التجاري البري القديم “طريق الحرير” الذي كان يربط الصين بأوروبا.
وطريق الحرير الجديد، مثل الطريق القديم سيعبر السهول الشاسعة لوسط آسيا، ويُقال إن المبادرة في ثوبها الجديد تهدف أيضا لأن تكون ازدهارا اقتصاديا لكل الدول الممتدة على الطريق.
ويقول لورانس أ.فرانكلين ضابط الاحتياط السابق، والذي عمل محللا سياسيا وعسكريا في وكالة المخابرات العسكرية الأميركية، في تقرير نشره معهد جيتستون الأميركي للأبحاث إن “شي سارع بأن ألحق بمبادرة الحزام والطريق البرية نسخة بحرية، يفترض أن تربط الموانئ الصينية على بحر الصين الجنوبي بالموانئ في المحيط الهندي، مواصلا حتى دول الشرق الأوسط والوصول في النهاية إلى الموانئ الأوروبية”.
وكانت هذه المقترحات تشمل فقط الدول الواقعة على طرق المبادرة، أما الآن فإن طرق الرئيس الصيني الضخمة عالمية في نطاقها، وتمتد حتى جيبوتي التي تعد ممرا بحريا إستراتيجيا في أفريقيا غرب شبه الجزيرة العربية تماما، والإكوادور التي تمتلك ثالث أكبر احتياطيات بترولية في أميركا الجنوبية.
ولكن المكاسب الاقتصادية بالنسبة لبعض هذه الاتفاقيات الثنائية بين الصين ودول “العالم الثالث” الفقيرة مثار شكوك، ويبدو أن عددا قليلا من هذه الاتفاقيات مخطط لإخضاع الدول الفقيرة بالفعل لتبعية اقتصادية دائمة لبكين.
ولكن الانقسامات تظهر بوضوح في أوروبا حول ذلك، فدول الاتحاد ترفض الانضمام إلى المشروع الصيني، بينما إيطاليا وحدها انضمت إلى هذه المبادرة من بين مجموعة الدول السبع الكبرى.
وترى أصوات من مؤسسات الاتحاد الأوروبي أن الأنشطة الصينيّة في منطقة أوروبا الوسطى والشرقية مثلما تؤثر على وحدة الاتحاد الأوروبيّ، فهي تمارس تأثيرا سلبيا على أعضاء الاتحاد والخيارات الإستراتيجية للأعضاء المحتملين.
ورغم أن هذه الأصوات تشير إلى أن دور أوروبا الغربية في أوروبا الوسطى والشرقية آخذ في الانخفاض وأن دور بكين آخذ في الازدياد، فإن الواقع هو أن الوجود الاقتصادي الصيني في المنطقة ضئيل من وجهة نظر كل من الاستثمار الأجنبي المباشر وصادرات أوروبا الوسطى والشرقية.
وحتى في البلدان التي يُنظر إليها على أنها تعاني من موجة كبيرة من الاستثمارات الصينية، مثل التشيك، فإنّ الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني يقل عن استثمارات مستثمرين آخرين، وهو أقلّ بكثير من التصريحات الرسمية.
وشكّل إبطال “درع الخصوصية” الشهر الماضي انتكاسة جديدة لبروكسل وسط مخاوف بشأن التداعيات السلبية المحتملة على العلاقات الاقتصادية مع واشنطن. كما أن الحرب التجارية بين عملاقي صناعة الطيران إيرباص الأوروبية وبوينغ الأميركية بعد إضافي لإمكانية استغلال بكين تلك الوضعية رغم أنها لا تزال بعيدة بأشواط.
ومن الواضح أن هدف شبكات مبادرة الحزام والطريق هو تحقيق مكاسب للصين، سواء بتحفيز زيادة كبيرة للغاية في التجارة، أو من خلال الاستحواذ على أي أصول تختارها الصين عندما يتم العجز عن سداد الديون.
وربما تستطيع بكين، باعتبارها أكبر مستورد للنفط في العالم، تنويع مصادر حصولها عليه نتيجة للعديد من اتفاقيات مبادرة الحزام والطريق الثنائية.
سياسيا، من المرجح أن يحقق الصينيون مكاسب سياسية من خلال ترتيبات البرنامج، فالدول المشاركة في مبادرة الصين، والتي بشكل عام تتمتع بعلاقات ودية مع الولايات المتحدة وحلفائها، ربما تنأى بنفسها عن دعم مخاوف الأمن القومي لدى الغرب خوفا من فقدان الاستثمارات الصينية الكبيرة في اقتصاداتها.
ويوضح منتقدو برنامج المبادرة الصينية أن اتفاقيات القروض الصينية تفتقر إلى الشفافية وأن العقود تخدم المصالح الصينية أحيانا بطريقة تتسم بالابتزاز، وتتجاهل المخاوف المحلية.
فعلى سبيل المثال، عندما عجزت سريلانكا عن الوفاء بالتزاماتها في ما يتعلق بالديون تخلت للصين عن ميناء هامبانتوتا. وتقوم فنزويلا بتوريد النفط للصين بدلا من عملتها التي لا قيمة لها.
كما يتهم المنتقدون الصين بتقديم مزايا في عقودها مع الدول ذات النظم التي تروق لها، وقد استثمرت الصين في زيمبابوي في أفريقيا، ولاوس في جنوب شرق آسيا، وفنزويلا في أميركا الجنوبية.
وأحد العيوب بالنسبة للقروض الصينية الكبيرة التي تمول مشروعات بنية تحتية هو إرغام الدول المضيفة على الالتزام بما يصفه الرئيس الصيني بـ”السمات الصينية”.
فعندما تبدأ بكين في تنفيذ مشروع بنية أساسية، تصل أعداد كبيرة من العمال الصينيين إلى الدولة المضيفة، ويقومون بإعداد منطقة خاصة لمعيشتهم. ويغادرون البلاد بعد الانتهاء من المشروع، ولا يستعان سوى بعدد قليل من العمال المحليين.
ومن الواضح أن أهداف البرامج العالمية لمبادرة الحزام والطريق إستراتيجية وسياسية بقدر ما هي اقتصادية. كما يبدو أن الهدف النهائي للبعد العالمي لهذا المشروع هو تغيير البعد السياسي والاقتصادي والعسكري للنظام الديمقراطي الليبرالي الغربي ليحل محله بعد يهيمن عليه فقط الحزب الشيوعي الصيني.
وقد نفى كثير من المسؤولين الصينيين الاتهامات المتعلقة بما يوصف بأنه “فخ ديون” تنصبه الصين لشركائها في مبادرة الحزام والطريق، وأكدوا أن ما تقدمه الصين من قروض للدول يفيد الجانبين.
ويقول بعض المحللين إن اتهام الصين باتباع سلوك افتراسي مبالغ فيه، حيث أن بكين تقوم في الغالب بإلغاء الديون على الدول الأكثر فقرا، كما أن غالبية الديون في معظم الدول الأفريقية هي لصالح مقرضين غير صينيين.
وتقول هوي لو كبيرة المحللين بمؤسسة راند الأميركية إن الدوافع الجيوسياسية وراء المبادرة الصينية محل نقاش كبير، كما أن المبادرة تعرضت لانتقادات شديدة بسبب الطريقة التي يتم التعامل بها بالنسبة لبعض مشروعاتها.
وأشارت إلى أن هذا التناول السلبي قد يصرف النظر عن المكاسب الاقتصادية المحتملة إذا ما تم تحسين البنية الأساسية على طول الحزام المقترح.
وإذا ما اتسقت الدول والمناطق المشاركة في المبادرة خططها التنموية لتحقيق التلاحم بين تنفيذ السياسات والبنية الأساسية، من الممكن أن تتحقق مزايا اقتصادية كبيرة للغاية.
العرب