برزت فكرة التكامل الإقليمي، كما نعرفها اليوم، إطارا مؤسسيا لتنظيم العلاقة بين عدد من الدول ذات السيادة وإدارة جهودها بشكل سلمي بهدف تحسين حياة شعوبها، وتعزيز وضعها في النظام الدولي/العالمي في أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم أن تأسيس جامعة الدول العربية، في منتصف أربعينيات القرن العشرين، سبق طرح مشروع التكامل الأوروبي، فإن فشل خبرة هذه المؤسسة في تحقيق أي إنجازات تكاملية حقيقية علي أرض الواقع يجعل خبرتها بالأساس مفيدة في فهم أزمات التكامل الإقليمي، وعوامل إخفاقه بأكثر مما تفسر عوامل نجاحه.
ومثَّل طرح مشروع التكامل الأوروبي في خمسينيات القرن العشرين أحد المؤشرات المهمة إلي الفشل المتواصل لجهود التيار المثالي ومنظريه في تأسيس حكومة عالمية تنهض بمهام تنظيم العلاقات الدولية سلميا، وتلبية احتياجات دول العالم التنموية، والعقبات الهيكلية التي تحول دون وجود مثل تلك الحكومة، كما اتضح من خبرتي عصبة الأمم، ثم الأمم المتحدة.
كما مثَّل مشروع التكامل الأوروبي مؤشرا كذلك إلي أولوية الإقليمي علي العالمي، في ظل تنامي الصراع بين القطبين العالميين آنذاك. إلا أن سعي العديد من الدول في مناطق العالم الأخرى إلي محاولة تمثُّل خبرة نموذج التكامل الأوروبي الذي حقق نجاحات أولية سريعة ومبهرة في توطيد الروابط المؤسسية، وتنسيق آليات الحكم بين الدول الأوروبية، وتعميق التكامل الاقتصادي، والصلات المجتمعية والثقافية بين شعوبها، أثار طموحات كثيرة وواسعة النطاق بأن يكون التكامل الإقليمي لتأسيس نظام عالمي جديد أكثر عدلا وتوازنا، من خلال تعزيز الأوضاع السياسية والاقتصادية لتلك المناطق قدرتها علي الشراكة بشكل أكثر فاعلية في التحرك نحو تأسيس مثل هذا النظام وإدارته.
وخلال عشر سنوات فقط من تدشين مشروع التكامل الأوروبي، انطلقت عمليات تكامل إقليمي أخري تحاول استلهام المدخل الاقتصادي لهذا المشروع في أمريكا اللاتينية، وآسيا، وإفريقيا، وصولا إلى بلوغ آفاق تكاملية سياسية، وثقافية، واجتماعية أكثر تطورا ورسوخا، في موجة يمكن وصفها بـ “التكاملية التنموية”. واستهدفت تلك الموجة تعزيز القدرة التنموية للدول التي انخرطت فيها، ومواجهة القدر الهائل من التمييز السلبي الذي عانته مشاريعها التنموية، في ظل نظام اقتصادي عالمي يعاني درجة كبيرة من الاختلال، وعدم التوازن الهيكليين لمصلحة القوي الغربية. وأدي سبق تلك القوي الغربية بقية العالم في مسيرة التصنيع والتطوير التكنولوجي، واستغلالها موارد الكثير من دول العالم الأخرى وأسواقها، عبر حركة الاستعمار التي دامت قرونا طويلة -لتعزيز نموها الاقتصادي، بتكلفة لا تكاد تذكر، بما بات علي بقية دول العالم حديثة الاستقلال أن تدفعه لاحقا للولوج إلى فضاءات التنمية -إلى خلق خلل هيكلي في بنية الاقتصاد العالمي، وضع أي مشروع تنموي تتبناه دولة حديثة الاستقلال في منتصف القرن العشرين في مواجهة ظروف منافسة غير عادلة واحتكارات عالمية، وتوزيع غير عادل للمزايا التكنولوجية، والخبرات التصنيعية.
أعلى التصور المبدئي لهذه الموجة من التكاملية التنموية، خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، مبدأ الاعتماد علي الذات، من خلال محاولة تقليص الاعتماد علي هيكل التجارة الدولية غير العادل، وتقليص الواردات من السلع تامة التصنيع من الخارج، مقابل التوسع في الإنتاج المحلي، وزيادة حجم السوق، من خلال التكامل، وخفض التعريفات الجمركية إقليميا. ولعبت أفكار الاقتصاديين الهيكليين، من أمثال الأرجنتيني راؤول بريبش، والألماني هانز سينجر، ومن لحقهما من منظِّري مدرسة التبعية، تأثيرا مهما في هذا الصدد. إلا أن الجزء الأكبر من تلك الموجة التكاملية واجه إخفاقا كبيرا يمكن رده إلى العوامل الآتية:
1- ضعف البنية الأساسية الداخلية والبينية، وانخفاض كفاءة الكوادر البشرية، وهما شرطان ضروريان ليس فقط للإسراع بأي مشروع تنموي، بل لإطلاقه من الأساس. يضاف إلى ذلك أن هذه الدول عانت عدم وجود فوائض مالية كافية لمواجهة عوامل العجز الهيكلية تلك، فضلا عن إطلاق جهد استثماري ضخم في مجالات الإنتاج المختلفة.
2- الاستبداد السياسي الذي ميز العديد من أنظمة الحكم التي تلت مرحلة الاستقلال، وبروز نمط من النخب المغلقة التي سعت إلى احتكار العملية السياسية، وتكريس توزيع غير عادل للقيم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية ما فتح الباب أمام صراعات اجتماعية، خاصة في الدول المنقسمة إثنيا، أو -علي أقل تقدير- فاقم من عدم الرضا الاجتماعي عن أعباء تلك المشاريع التنموية.
3- امتداد الصراع القطبي علي قمة النظام الدولي آنذاك إلى العديد من أقاليم ومناطق وتغلغله فيها، مما فاقم من ظاهرة الحروب الإقليمية، والصراعات المحلية التي أعاقت بدرجة كبيرة جهود التنمية للدول حديثة الاستقلال. وفي المقابل، أدي الدعم الغربي القوي لتجارب تنمية ناجحة في بعض دول العالم، كما كان عليه الحال في كوريا الجنوبية، إلى خفض جاذبية نماذج التنمية القائمة علي مبدأ الاعتماد علي الذات، ونظرياته الاقتصادية.
أدي سقوط الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة، والإخفاق الذي أصاب الكثير من تجارب التنمية القائمة علي مبدأ الاعتماد علي الذات، إلى صعود أفكار النيوليبرالية، والقوي الدافعة لها، يعززها في ذلك ما شهده عقدا الثمانينيات والتسعينيات من تطورات مهمة في أدوات الإنتاج والاتصال، كان مركزها الاقتصادات الغربية بالأساس. وقاد ذلك إلى تحول جوهري في توجهات حركة التكامل الإقليمي، سواء في أوروبا، أو حول العالم، حيث لم تعد تحاول تجاوز إخفاقات تأسيس حكومة عالمية، أو تعزيز شراكة عادلة ومتوازنة في إدارة النظام العالمي، بقدر ما باتت تحاول الالتحاق بمنظومة القيم والنظريات النيوليبرالية، التي عمل القطب الأمريكي المنتصر، والمؤسسات المالية الدولية المهيمنة إلى فرضها عالميا. وفي هذا الإطار، برز مفهوم “الإقليمية المفتوحة” بعدِّه الإطار النظري الحاكم لحركة التكامل العالمية التي باتت تستهدف تأسيس تكتلات تعزز انخراط دول العالم في قواعد اقتصاد السوق العالمي، بغض النظر عن مدي تطور الأقاليم المختلفة ودولها، وبغض النظر عن عدالة هذا الانخراط علي فئاتها الاجتماعية الختلفة.
في هذا السياق، تراجع منطق التكامل الإقليمي، بل ومنطق الدولة الوطنية ذاته، لينحصر في تحقيق غايات الاندماج في الاقتصاد المعولم، وتمهيد البيئات المحلية لمثل هذا الاندماج، من خلال التركيز علي الاقتصاد الموجه للتصدير، والمعتمد علي الاستثمارات الخارجية بأكثر مما يستهدف الارتقاء بالمجتمعات المحلية، وإشباع احتياجاتها، أو الانتقال إلى آفاق تكاملية أكثر عمقا وتشعبا. لم ينجح هذا النموذج النيوليبرالي من خلال اتفاقيات التجارة الحرة والاستثمار، التي ارتكز عليها في معالجة جوانب الخلل المحلية في دول الجنوب، والتي استهدفت تجربة التكامل مبدئيا تعزيز قدرة الدول علي التصدي لها وتجاوزها. وكان المستفيد الأكبر من عوائد النمو الناتج عن تحرير التجارة والاستثمار هو عددا محدودا من الشركات الكبري عالميا، وشركائها المحليين، فيما استمر سوء توزيع الدخل، والأوليجاركيات المغلقة السمتين الأساسيتين المهيمنتين في الكثير من دول الجنوب.
كان الأثر الأخطر والأكثر عمقا لتحول فكرة التكامل نحو تكريس الاندماج في الاقتصاد المعولم هو تعزيز إمكانية انتشار المخاطر والأزمات الاقتصادية علي نطاق عالمي. وبينما يقف العالم اليوم في مواجهة تداعيات أزمة اقتصادية، يبدو أن العديد من الاقتصادات المحلية والإقليمية لم تتمكن من التعافي منها بشكل كامل. بل إن ما تم تصويره بعدِّه أنجح خبرات التكامل في التاريخ، وهو الاتحاد الأوروبي، بات يواجه تحديات حقيقية، ليس فقط في القدرة علي حماية دوله الأعضاء من تداعيات هذه الأزمة، ولكن الأخطر في القدرة علي حماية وجوده من أزمات هوية واقتصاد متفاقمة باتت تهدد وحدته واستقراره. وإذا كان الحال كذلك في التجربة الأكثر تطورا، فإن الصورة لا تبدو إيجابية كذلك في العديد من تجارب التكامل الإقليمية الأخري حول العالم، مثل (تجمع دول الإنديز) و”ميرسكور” في أمريكا اللاتينية، أو “الآسيان” و”سارك” في آسيا، أو “سادك” في إفريقيا. فهذه التجارب جميعها لا تعاني فقط ضعفا في أدائها وهياكلها، بل إنها باتت تعاني تزايد عدم ثقة الناس فيها، وفي قدرتها علي مساعدة مجتمعاتها لتصبح أكثر عدلا ورقيا، خاصة أن الأزمات العالمية التي تعجز حركة التكامل الإقليمي، ونمط القيادة العالمية للقطب الأمريكي الأوحد عن مواجهتها، لم تعد تقتصر علي الاقتصاد، بل باتت تشمل المناخ، والغذاء، وكفاية الموارد، فضلا عن انتشار الإرهاب، والتطرف، وأزمات الهوية.
وبرز، في هذا السياق، العديد من الحركات الاجتجاجية، والمنظمات غير الحكومية التي سعت، خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، إلى معارضة هيمنة التوجهات النيوليبرالية علي حركة التكامل الإقليمي عالميا، وحاولت تطوير بدائل للتكامل أكثر تحررا من تلك المنظومة. لكن التحدي الأهم أمام حركة التكامل الإقليمي، التي تفاقمت أزمتها خلال العقد الماضي، هو إعادة تعريف دورها وآلياتها. وهنا، نلمح بروز توجهين، أحدهما حمائي يستهدف ليس استعادة نزعة الشراكة العالمية العادلة والمتوازنة، بقدر ما يستهدف حماية الدول والمجتمعات من تداعيات الانخراط في النظام الاقتصادي العالمي، وتأسيس نماذج تكاملية تستهدف تحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان الاستدامة البيئية، وتعزيز مبادئ التشارك. وبرزت دعوات في هذا الصدد داخل أمريكا اللاتينية بشكل خاص. أما التوجه الآخر، فهو يحاول استخدام التكامل الإقليمي كأداة لدعم قوي المراجعة التي ترفض الهيمنة الأمريكية، ويبرز ذلك في حالة مشروع التكامل الأوراسي الذي تتبناه روسيا بكشل قوي في ظل بوتين، وهو التوجه الذي قد تدعمه الصين، وربما يمتد سريعا إلى منطقة الشرق الأوسط.
في ظل تفاقم أزمة القيادة الأمريكية للعالم، وعجزها عن الضبط والسيطرة التامة علي تفاعلاته، مما حدا بها إلى إعادة تعريف أولويات سياستها الخارجية، التي لا يبدو أنه سيكون من ضمنها العمل علي تحقيق السلام العالمي، أو ضمان شروطه، يبدو أن خبرات التكامل الإقليمي باتت تواجه تحديا أكثر خطورة يتعلق بإعادة تعريف أدوارها وغاياتها، بعيدا عن سياسات القطب الأمريكي، والتوجهات النيوليبرالية. يحاول هذا الملحق، من خلال فحص خبرات عدد من تجارب التكامل الإقليمي، الاقتراب من السؤال: هل يمكن أن يلعب التكامل الإقليمي دورا إيجابيا في مواجهة واقع عالمي مأزوم، أم أن العالم يسير حثيثا نحو الفوضي؟.
مالك عوني
مجلة السياسة الدولية