من بساط الريح إلى صرخة الحوثي: كيف فقد اليمن جزءا أصيلا من مجتمعه؟

من بساط الريح إلى صرخة الحوثي: كيف فقد اليمن جزءا أصيلا من مجتمعه؟

إذا كان يهود اليمن قد تعرّضوا لبعض الاضطهاد وحرموا من بعض حقوق المواطَنَة، فإنّ السبب الرئيسي لمغادرتهم البلد هو تلك الفرصة التاريخية التي أتيحت لهم لبدء حياة جديدة في وطن جديد مختلف عن الوطن الأصلي الذي لم ينجح على مدار تاريخه المعاصر في أن يكون مكانا يستطاب فيه العيش بفعل الفشل المتكرّر لنموذجه السياسي وتعثّر جهود التنمية فيه وعدم استقراره الذي خلق بيئة مناسبة لظهور النزعات الدينية المتشدّدة وتغلغلها في مجتمعه.

ريدة (اليمن) – تضافر عاملان متقابلان ليجعلا اليمن يفقد خلال أقل من قرن جزءا أصيلا من مجتمعه ضاربا بجذوره في الأرض اليمنية منذ حوالي ألفي سنة، وفقا لبعض الروايات التاريخية.

ويتعلّق الأمر باليهود اليمنيين الذين تقلّص عددهم من قرابة الخمسين ألفا في منتصف القرن الماضي إلى بضعة أفراد الآن، يستعد الأصحّاء منهم إلى المغادرة النهائية، بينما يفضل المسنّون والمرضى اختصار الجهد وانتظار الموت في البلد الذي ولدوا وعاشوا على أرضه، ليسدل الستار بذلك على آخر مظهر للتنوّع الديني في اليمن الذي أصبح بمغادرة اليهود بلد الديانة الواحدة وهي الإسلام بفرعيه السنّي الشافعي، والشيعي الزيدي.

ويتمثّل أول العاملين اللذين أديا إلى شطب اليهود من الخارطة السكانية لليمن، في أنّ البلد كان على مدار العشريات الماضية وإلى الآن مكانا غير مغر للعيش والاستقرار فيه وذلك بسبب أوضاعه السياسية والأمنية غير المستقرة، مع وجود اختلافات في حالات عدم الاستقرار بين فترة وأخرى، وأيضا بسبب أوضاعه الاجتماعية الهشّة في ظل الفشل المزمن في إرساء عملية تنموية منتجة للثروة ومحقّقة لقدر من الرفاه للمجتمع، فضلا عن تكلّس الأوضاع السياسية والفشل في إرساء دولة المواطَنَة التي يتساوى فيها الجميع بغض النظر عن أصولهم العرقية وانتماءاتهم الدينية والطائفية.

ثمّ جاء صعود تيارات وتنظيمات الإسلام السياسي المتشدّدة من إخوان مسلمين وحوثيين وقاعدة، ليجعل من اليمن منفّرا لأبنائه الذين يحلم أغلبهم بالهجرة إلى حيث تتوفّر فرص العمل وإمكانيات النجاح والتمتّع بقدر من الحرية بعيدا عن قمع السلطة وتسلّط المتشدّدين. ولو أتيحت لكل اليمنيين، من غير أتباع الديانة اليهودية فرص للهجرة إلى خارج البلاد لكان البلد قد فقد منذ سنوات الغالبية العظمى من سكّانه.

عوامل جاذبة
في مقابل ذلك كانت هناك نقطة جذب قوية ليهود اليمن، متمثّلة في دولة إسرائيل التي أظهرت منذ تأسيسها في أواخر أربعينات القرن الماضي حرصا واهتماما شديدين باستقطاب الجاليات اليهودية من مختلف أصقاع العالم، لاسيما في المنطقة العربية حيث كان يهود بعض بلدان المنطقة يتعرّضون لأخطار حقيقية كما هي حالهم في العراق مثلا، عندما طالتهم في بغداد سنة 1941 أعمال عنف دموية في خضم حالة الفوضى التي عمّت المدينة عقب سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني، أسفرت عن مقتل وجرح المئات من اليهود العراقيين وتدمير المئات من بيوتهم ومحالّهم التجارية ونهب ما فيها من أموال وممتلكات، لتمثّل تلك الأحداث التي باتت تعرف بـ”الفرهود” بعد سنوات قليلة من وقوعها دافعا لهجرة يهود العراق جماعيا نحو إسرائيل “الوطن القومي” الجديد لليهود.

ورغم كثرة العوامل الطاردة ليهود اليمن في مقابل كثرة العوامل الجاذبة لهم خارجه، فإنّ هجرة هؤلاء من البلاد لم تكن عملية تلقائية بقدر ما كانت عملية منظمة وممنهجة تحت إشراف الوكالة اليهودية شبه الحكومية المسؤولة عن تنسيق هجرة اليهود إلى إسرائيل، حيث أسفرت العملية الضخمة التي نظّمتها الوكالة تحت مسمّى “بساط الريح” عن تهجير أكثر من خمسين ألف يهودي يمني، بينما تواصلت عملية التهجير خلال السنوات الأخيرة لاستكمال نقل من بقي من يهود اليمن.

صعود حركات الإسلام السياسي حد من نزعة التسامح الديني وعسر على الأقليات التعايش داخل بعض المجتمعات العربية

ففي سنة 2016، وبعد سنتين من اندلاع الحرب التي ما تزال دائرة إلى اليوم إثر غزو الحوثيين لمناطق شمال وغرب البلاد واستيلائهم على العاصمة صنعاء، قامت إسرائيل بآخر العمليات الكبيرة لنقل تسعة عشر فردا من اليهود اليمنيين، وهي العملية التي أطلق عليها اسم “من أقاصي اليمن” وتعاونت على إنجازها الوكالة اليهودية مع وزارة الخارجية الإسرائيلية وبمساهمة الخارجية الأميركية، وقد وصفت بالسرية، لكنّ عدّة مصادر شكّكت في ذلك مؤكّدة علم الحوثيين المسيطرين على محافظتي عمران وصنعاء اللتين نُقل منهما هؤلاء اليهود بالعملية وتسهيلهم إخراج المستهدفين بها رغبة في التخلّص منهم.

واكتست العملية أهمية خاصّة ومثّلت استثمارا سياسيا مجزيا لحكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كون أحد المغادرين ضمن عملية “من أقاصي اليمن”، شخصية دينية مرموقة هو حاخام الجالية اليهودية في مدينة ريدة سليمان ضاهري الذي حمل معه إلى إسرائيل نسخة قديمة من التوراة يزيد عمرها على ثمانمئة عام.

وإذ تمسّك عدد قليل من اليهود بالبقاء في اليمن، متجاهلين الإغراءات الإسرائيلية التي اجتذبت غالبية أبناء جلدتهم، فقد بدأت الصعوبات تلوح أمام بقائهم خلال العشريتين الماضيتين، حيث بدأوا يتعرّضون لمضايقات وتهديدات في مناطق إقامتهم خصوصا بالشمال اليمني.

شهدت المجموعة الصغيرة الباقية من يهود اليمن بدءا من منتصف العقد الأول من القرن الحالي عملية نزوح داخلي، حيث انتقل العشرات منهم من مناطق شمال اليمن إلى العاصمة صنعاء ليقيموا هناك في المدينة السياحية بعد تعرّض بعض العوائل اليهودية إلى مضايقات من قبل جماعة الحوثي خصوصا في منطقة غرير آل سالم بمديرية كتاف التابعة لمحافظة صعدة معقل الحوثيين وصلت حدّ نهب ممتلكاتهم والاستيلاء على بيوتهم وسياراتهم.

لكنّ أشدّ إنذار تلقّاه يهود اليمن بشأن تبدّل الأحوال مع صعود حركات دينية متشدّدة في البلد، كان مقتل الشاب اليهودي موشيه يعيش النهاري قبل نحو اثني عشرة سنة على يد طيار سابق في القوات الجوية اليمنية متأثر بأفكار تنظيم القاعدة.

ومنذ صيف العام الجاري أصبح اليمن شبه خال، ولأوّل مرّة في تاريخه، من اليهود بعد مغادرة آخر عائلتين يهوديتين البلاد في أجواء مختلفة هذه المرّة حيث كان لضغوط جماعة الحوثي المسيطرة على مناطق بشمال وغرب البلاد دور في تلك المغادرة غير الطوعية، حيث باعت العائلتان ما تبقّى لهما من ممتلكات في محافظتي عمران وصنعاء وغادرتا البلاد بشكل نهائي.

وكانت الأسرتان من ضمن عدد قليل من أتباع الديانة اليهودية الذين اختاروا البقاء في اليمن متخلّفين عن حملات نقلهم إلى إسرائيل، إلى أن بات أفرادهما معرّضين لضغوط من قبل جماعة الحوثي التي راوحت بين تهديدهم حينا، وترغيبهم في المغادرة حينا آخر بتسهيل بيع ممتلكاتهم وضمان خروج آمن لهم من البلاد.

ولا يكاد أحد يعرف اليوم العدد الحقيقي لمن بقي من يهود اليمن الذين شكّلوا طيلة حوالي عشرين قرنا جزءا أصيلا من سكّان البلاد، مستفيدين من نزعة التعايش التي كانت سائدة في المجتمع للحفاظ على خصوصياتهم الدينية والثقافية، قبل أن تتغيّر ظروف المنطقة ككل بإنشاء دولة إسرائيل، إلى جانب بروز ظواهر اجتماعية وسياسية طارئة على المجتمعات العربية من بينها ظهور حركات الإسلام السياسي المتشدّدة والإرهابية والتي حدّت من نزعة التسامح الديني وعسّرت على بعض الأقليات عملية التعايش داخل بعض المجتمعات العربية كما هي حال المسيحيين في العراق، وحال اليهود والبهائيين في اليمن.

وبحسب أغلب الروايات فإنّ عدد اليهود في اليمن لم يعد يتعدّى بضعة أفراد، أو بضع عشرات في أحسن الأحوال، ما يزالون موجودين في اليمن بشكل مؤقت في انتظار ترتيب مغادرتهم النهائية.

ويقول البعض إنّ من تبقى من يهود اليمن إمّا مسنّون معتكفون داخل منازلهم ولا يكاد يُلمح لهم أي ظهور في الحياة العامّة، أو بضعة كهول وشبّان تخلّوا عن مظاهرهم المميزة وأبرزها ما يعرف بالزنار وهو عبارة عن خصلتي شعر طويلتين يتمّ إسدالهما على الخدّين بشكل لولبي، وذلك كي يتمكّنوا من ممارسة الحياة اليومية دون التعرّض لأخطار أمنية أصبحت قائمة وحقيقية مع صعود جماعة الحوثي التي يتضمّن شعارها المعروف بالصرخة عبارات تهجينية لليهود ما يعتبر تحريضا ضدّهم.

لا بديل عن الرحيل

لا يمكن وصف وضع يهود اليمن بالمثالي، حيث عانوا دائما ما عاناه مواطنوه من فقر ومصاعب حياتية وضيق في سبل العيش وموارد الرزق، ومع ذلك فإنّ الدولة اليمنية سواء في عهد الإمامة أو عهد الجمهورية (قبل استيلاء الحوثيين على صنعاء)، لا يمكن تصنيفها كدولة مضطهدة لليهود بطريقة ممنهجة، دون أن تكون في الوقت نفسه قد أنصفتهم ومكنتهم من جميع حقوقهم كمواطنين.

فاليهودي اليمني لا يمكن له أن يرتقي إلى حكم البلاد بتسلم منصب رئيس الجمهورية ولا حتّى الفوز بمقعد في البرلمان، وذلك بموجب الدستور الذي ينصّ على أنّ الإسلام هو دين الدولة.

وبما أنّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع فإن قانون الأحوال الشخصية وحقوق الأقليات يخضع لتفسيرات الشريعة، بينما يشترط الدستور صراحة في من يترشّح لعضوية مجلس النواب أن “يكون مؤديا للفرائض الدينية”، بينما يشترط في رئيس الجمهورية أن يكون مسلما. ولم ينف ذلك وجود حالة من التعايش في المجتمع اليمني كانت تشمل أتباع الديانة اليهودية، وكانت متوارثة كتقليد مجتمعي راسخ ومفروضة على أرض الواقع كممارسة يومية.

وبعيدا عن حماس المتحسّرين على خسارة اليمن لجزء عريق من مجتمعه، وعن اتّهامات المتشدّدين لليهود اليمنيين بـ”خيانة” بلدهم الأصلي والانحياز لإسرائيل، يميل كثير من الدارسين لمسيرة يهود اليمن إلى الواقعية في التعاطي مع انتهاء وجود أتباع الديانة اليهودية بالبلد، فأجواء العداء التي سادت المنطقة بعد قيام دولة إسرائيل والصراعات العسكرية التي حدثت بعد ذلك بين هذه الدولة الناشئة وعدد من جيرانها العرب، وصعود الحركات الإسلامية المتطرّفة بعد ذلك والتي اتّخذت من الصراع العربي الإسرائيلي أداة رئيسية للدعاية عبر تسويقها ذلك الصراع باعتباره صراعا دينيا بين الإسلام واليهودية، لم تترك ليهود اليمن من خيار سوى الرحيل إلى حيث يتوفّر الأمان وأبواب الرزق وفرص العمل وصنع مستقبل للأبناء، على العكس تماما مما هو موجود في البلد الأصلي.

ويلخّص كهل يهودي يمني كان قد غادر اليمن خلال العشرية الأولى من القرن الحالي بالقول لإحدى الصحف الإسرائيلية “لم تكن مغادرة أسرتي لقرية عثار (تقع في محافظة عمران قريبا من مدينة ريدة) خيارا، فلم يعد ثمّة ما نعمله هناك حيث انقرضت أغلب الحرف والصنائع اليدوية التي كنّا نمارسها، ولم يعد باستطاعتنا إيجاد موارد رزق بديلة من دون الانتقال إلى المدن الأكثر حركية ونشاطا وهو أمر عسير على اليهود المختلفين في مظهرهم وسلوكاتهم وأسلوب حياتهم اليومية”، مضيفا “التغيرات كانت ملحوظة حتى في مستوى الأمن بالبلد مع بدء تسجيل تهديدات وحوادث عنف ضدّنا”، وموضّحا “من اختاروا البقاء أولا وعزّت عليهم مفارقة مسقط الرأس أيقنوا لاحقا بضرورة الرحيل عندما رأوا ما آلت إليه أوضاع البلاد بعد سنة 2011 وخصوصا الصعود الكبير للحوثيين الذين يعلنون على الملأ رفضهم التعايش مع اليهود في شعارهم المعروف بالصرخة”.

العرب