تواجه المنطقة العربية خطر نشوب نزاعات كبيرة على المياه مع اشتداد أزمة الجفاف بفعل التغيرات المناخية وهذا ما يجعل “العدو الخفي” مشتركا بالنسبة إلى الجميع، وهو أكثر تأثيرا من حروب أخرى تشكل محور صراعات جيواستراتيجية بين الدول من أجل البقاء وبسط النفوذ، ولكن بأي استراتيجية ستواجه حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أزمة العطش المتفاقمة؟
تونس – تشكل الصراعات العسكرية على مكامن النفط والغاز سواء في اليابسة أو في البحر الوجه الظاهر فقط للمعادلات الجيوسياسية في المنطقة العربية المليئة بالاضطرابات منذ سنوات طويلة، غير أن هناك وجها آخر للصراعات الإقليمية يدور رحاها في الخفاء، محورها المياه، والتي يقول المراقبون السياسيون والمختصون في عالم المناخ إن أهميتها سوف تكون في المستقبل مثل أهمية توفير الطاقة وربما أكثر.
ولطالما حذرت الهيئات والمنظمات الدولية المهتمة بعوامل المناخ من أن ندرة المياه في المنطقة العربية ستكون مشكلة مزمنة وتولد مشاكل أمنية وسياسية للسيطرة على مواردها في حال لم تتمكن الحكومات من إيجاد حلول جذرية وعاجلة ومشتركة على المدى القريب لتطوير إمكانيات دولها للابتعاد تدريجيا عن خط الفقر المائي، الذي بات التهديد رقم واحد.
ومن المؤكد أن الحاجة الملحة اليوم، التي تبرز في المنطقة هو إيجاد عزيمة أكبر لتنفيذ برامج طموحة تواجه بها الحكومات مشكلة ندرة المياه المتوقعة في الأعوام المقبلة رغم ما يمثله بناء محطات تحلية مياه البحر في المدن الساحلية من دور مهم لتحقيق الأمن المائي، وخاصة بعد أن صارت مشكلة استراتيجية مع تواصل الجفاف الذي يضرب بلدان المنطقة خاصة مع صدور أرقام دولية رسمية مفزعة تعكس المخاطر القادمة جراء ذلك.
ويبدو أن جائحة فايروس كورونا المستجد المستمرة منذ أكثر من ستة أشهر سلطت الضوء بكثافة ووضوح على قضية ندرة المياه في المنطقة، باعتبار ما تعانيه أغلب البلدان العربية، إن لم يكن كلها، رغم ما بذلته من جهود لحلها، في ظل المؤشرات، التي تؤكد أنها تتواصل وستخلف كوارث وحروبا على الأرجح للسيطرة على مكامن المياه.
ويعتقد المراقبون أن الدول المعرضة لموجات جفاف طويلة بفعل التغيرات المناخية، بما فيها المنطقة العربية، ستجد نفسها في مأزق اجتماعي وسياسي واقتصادي إن لم تأخذ هذه التهديدات بجدية أكبر لأن الأرقام والتنبيهات الحديثة الصادرة عن المؤسسات والمنظمات الدولية تشي بتفجر أزمة لا محالة.
وهناك العديد من الشواهد التي تُظهر أن الدول العربية مقبلة على صراعات مائية، فمشكلة سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا تعكس جزءا بسيطا من أزمة أشمل وأعمق بحيث لا يمكن إغفال عناصر أخرى تصنع الأزمات، فقد أسهمت إقامة دول المنابع للسدود على نهري دجلة والفرات في خفض منسوب المياه الواصل إلى العراق.
وبينما عملت أديس أبابا على اتخاذ خطوت أحادية أزعجت بها القاهرة والخرطوم هدفها السيطرة على مياه النيل، أقامت تركيا مشروع شرق الأناضول، والذي تضمن بناء 22 سدا لتلبية متطلبات مشاريعها الإنمائية، كما نفذت إيران مشروعات على الأنهار المشتركة مع العراق أدت إلى تحويل مجرى بعض الروافد إلى داخل أراضيها في تسلط واضح على موارد هذا البلد العربي.
ويتيح التحكم في إمدادات المياه السيطرة الاستراتيجية على المدن والأرياف أثناء الحروب الجارية في العراق وسوريا وليبيا واليمن لأنه هدف استراتيجي رئيسي لجميع المجموعات المتصارعة هناك، باعتبار أن التحكم في مصادر المياه يعطي قوة أكبر لمن يسيطر عليها بحيث يمكنه التقدم في المعركة، ولذلك يعتبر ذلك سببا جوهريا لاستمرار الحروب لكون الماء ضروريا ولا يمكن الاستغناء عنه.
وعند القيام بتتبع مسار نقص المياه في السدود والأنهار، يلاحظ أن أكثر من عشر دول في المناطق القاحلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تعتبر أكثر دول العالم معاناة مما يعرف بـ”الإجهاد المائي”، وهو مصطلح يستخدم للاستدلال على كمية المياه، التي يمكن الحصول عليها من المصادر الجوفية والسطحية مقارنة بالكمية المتاحة.
ومن اليمن إلى العراق وسوريا يصل مستوى الإجهاد المائي في الوقت الحالي إلى مستويات تبعث على القلق، وفق دراسات حديثة، كما تواجه دول جنوب أوروبا (شمال أفريقيا) والدول المتوسطية الأخرى مثل لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة ضغوطا شديدة وتتفاقم المشكلة مع تركيز استغلال الموارد المائية في قطاع السياحة.
ولكن حتى القطاعات الأخرى، التي تعتمد على مورد المياه بشكل أساسي، كالزراعة، تحتاج إلى اعتماد استراتيجيات جديدة خاصة وأن بيانات حديثة أصدرتها الأمم المتحدة مؤخرا في تقرير بعنوان “متحدون في العلوم”، وهو مشروع مشترك بين 7 هيئات ومنظمات دولية تعنى بالمناخ أظهرت أن نحو 87 مليون شخص في المنطقة العربية يفتقرون إلى مياه الشرب في أماكن إقامتهم.
وبالتأكيد تلقي هذه الأزمة بتأثيراتها السلبية الشديدة على إنتاج الغذاء في الدول العربية، ففي ظل نقص المياه المتاحة للشرب أصلا، هناك نقص هائل في كميات المياه المتاحة للزراعة التي تعد المصدر الرئيسي لإنتاج الغذاء، ومن هنا، فلا غرابة في أن تعتمد الكثير من الدول العربية على الخارج لاستيراد مستلزماتها الغذائية الضرورية.
وهناك قناعة راسخة لدى المنظمات الدولية، بما فيها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الدول العربية أن ما يهم الآن هو أن تعمل الحكومات العربية لتحقيق أهدافها المائية، انطلاقا من عاملين مهمين يشكلان استراتيجية متكاملة، الأول يتمثل في الحفاظ على مصادر المياه الموجودة بالفعل من خلال ترشيد عملية الاستهلاك لوقف كميات المياه المهدورة.
ولا يقل العامل الثاني أهمية، إذ لا بد أن تكثف دول المنطقة جهودها لإضافة مصادر جديدة تساعد على تحقيق الأمن المائي، من خلال زيادة محطات تحلية مياه البحار والمحيطات على سبيل المثال، للدول المطلة على المسطحات المائية، والأهم في جميع الأحوال عدم استخدام الحرمان من المياه سلاحا من أسلحة الحرب في الدول التي تشهد نزاعات.
العرب