يمكن القول إن التصعيد الذي يسيطر على تصريحات المسؤولين العسكريين الإيرانيين، إن كان من قيادات الجيش النظامي، أو قيادات مؤسسة حرس الثورة، لا يدخل في باب الترف العسكري، أو استعراض فائض القوة، بل يصدر عن إحساس وشعور مُسيطر لدى هذه القيادات ومن ورائها القيادات السياسية، بخطورة المرحلة، خصوصاً الأشهر الثلاثة المقبلة، أي ما قبل وما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، المقررة في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020.
ويبدو أن قيادة النظام الإيراني قد بدأت تستشعر بجدية وجود محاولات أميركية لاستدراجها إلى مواجهة عسكرية محدودة في الأسابيع القليلة المقبلة، قبل موعد الانتخابات، ومحاولة توظيف هذه المواجهة في حشد الرأي العام الأميركي الداخلي لتعزيز مسار عودة الرئيس دونالد ترمب إلى إدارة البيت الأبيض لدورة جديدة على حساب المرشح الديمقراطي المنافس جو بايدن.
مواقف متشددة
وينطلق الاعتقاد الإيراني من مُسلّمة أكد عليها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، في حديث مع إحدى قنوات مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الرسمية، بفشل واشنطن في تمرير مشروعها لتمديد حظر الأسلحة الذي ينتهي مفعوله في 8 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، حسب الاتفاق النووي وقرار مجلس الأمن 2231. إضافة إلى رفض هذا المجلس والترويكا الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) الاعتراف بحق واشنطن في تفعيل آلية فض النزاعات، أو ما يعرف بـ”آلية الزناد أو السناب باك”، ما يرفع المخاوف لدى هذه القيادة من إمكانية التفاف واشنطن على هذه العقبة من خلال العودة إلى تفعيل العمل بقرار مجلس الأمن 1929 الذي فرض عقوبات دولية على إيران، ومن ضمنها عمليات بيع النفط، وذلك من خلال اللجوء إلى اعتراض السفن التي تحمل النفط الإيراني في أعالي البحار ومصادرتها، وهو ما اعتبره ظريف أنه يدخل في إطار القرصنة البحرية لجهة أن القرار المتعلق بالاتفاق النووي رقم 2231 قد ألغى مفاعيل القرارات السابقة لمجلس الأمن، ومن ضمنها القرار 1929.
وعلى الرغم من محاولة ظريف التقليل من آثار أي إجراء أميركي عقابي يدخل في إطار تعزيز الحصار على طهران، فإن المواقف التي صدرت عن قائد حرس الثورة الجنرال حسين سلامي، التي رفع فيها مستوى المواجهة إلى الحد الأقصى عندما هدد الجانب الأميركي بالقول “إذا مسستم شعرة من أي إيراني سنسلخ جلودكم. نحن لا نخوض حرب ألفاظ معك (ترمب) سنلاقيك في الميدان. كل مصالح أعدائنا تحت سيطرتنا وتحت أعيننا، وإذا تطلب الأمر في مرمى نيراننا”. هي مواقف تكشف مدى ومستوى التوتر الذي وصلت إليه الأمور، وحجم التهديد وإمكانية انزلاق طهران إلى معركة عسكرية غير متكافئة تفرض عليها في التوقيت الأميركي الانتخابي.
هذه المواقف المتشددة قد يكون مردها إلى تمسك الإدارة الأميركية بحقها في تفعيل آلية الزناد التي من المفترض أنها دخلت حيز التنفيذ في 20 سبتمبر (أيلول) 2020، على الرغم من كل المواقف الدولية النافية لإمكانية هذا التفعيل حتى من قبل الترويكا الأوروبية الشريكة مع واشنطن في التوقيع على الاتفاق النووي مع طهران، وهو ما قد يدفع الجانب الإيراني إلى رفع مستوى الحذر من إمكانية لجوء واشنطن إلى عملية استباقية قبل 18 أكتوبر، وعلى مقربة من موعد الانتخابات للقيام بعمل تستدرج فيه القوات العسكرية الإيرانية، رداً على إجراءات قد تلجأ إليها؛ ما يعطي الجانب الأميركي الغطاء الدولي لتوجيه ضربة قاسية ومحدودة تحت عنوان الدفاع عن النفس.
مطاردة الناقلات الإيرانية
من خلال تركيز ظريف على مصادرة واشنطن الناقلات التي كانت تحمل النفط الإيراني ومتجهة إلى فنزويلا، يبدو أن الترجيحات الإيرانية تتمحور حول إمكانية أن تلجأ القوات البحرية الأميركية، تحت غطاء تطبيق قرارات مجلس الأمن، وتحديداً القرار 1929 ومن دون الأخذ بالاعتبار الاعتراضات الدولية، إلى مطاردة الناقلات الإيرانية وغير الإيرانية التي تحمل البضائع والنفط الإيراني في أعالي البحار ومصادرتها؛ ما يعني حرمان النظام الإيراني من الشريان الأخير في الحصول على عائدات نفطية تساعده على سد جزء من العجز الذي يعانيه في معالجة الوضع الاقتصادي المتأزم والمتدهور.
وهذه المخاوف الإيرانية تتسوق مع تقديرات من داخل الإدارة الأميركية، ومقربة من الإدارة الخارجية، تتحدث عن أن واشنطن إذا نجحت في استدراج رد إيراني ستمتلك الذريعة للدفع باتجاه توجيه رد قاسٍ وحاسم على العملية أو الاعتداء الإيراني الذي قد يطال أي هدف من البحرية الأميركية، بخاصة في مياه الخليج ومضيق هرمز، واعتبار أي عملية إيرانية غير قانونية وتتعارض مع مساعي واشنطن لتطبيق القرارات الدولية، وبالتالي فإن استهداف إيران في هذه الفترة الزمنية وقبل الانتخابات الرئاسية سيكون الوقت المناسب لتحسين شروط ترمب الانتخابية وتعزيز فرصة عودته إلى البيت الأبيض، بخاصة إذا استطاع فريقه السياسي تسويق هذه العملية وتكريس الاتهام لإيران بأنها المعتدية في أذهان الناخب الأميركي.
في هذا السياق، يبدو أن الجانب الإيراني يُبدي جانباً من القلق من الاهتمامات الأميركية الموجهة ضده، خصوصاً ما يتعلق بالاتهام الأخير الذي تحدث عن مخطط إيراني لاغتيال السفيرة الأميركية في جمهورية جنوب أفريقيا في إطار الانتقام لعملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني في العراق مطلع العام الحالي، ما دفع طهران للمسارعة إلى نفي هذا الاتهام وتأكيد عمق العلاقات التي تربطها بجنوب أفريقيا، في حين جاء الرد الأميركي عنيفاً على لسان الرئيس ترمب، بناء على تقرير صحيفة “بوليتيكو”، وحمل تهديداً مباشراً برد قاسٍ ومدمر في حال قيام إيران بأي خطأ أو استهداف المصالح الأميركية.
حتى الآن، يبدو أن القيادة الإيرانية السياسية والعسكرية تعمل على إبعاد شبح الاستدراج إلى حرب أو مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة، وتكتفي بتوجيه رسائلها عبر العمليات التي تقوم بها جماعات عراقية ضد القواعد والقوات الأميركية المنتشرة في العراق، وفي الوقت نفسه تُبدي تعاوناً محدوداً ومسهلاً لعملية الحوار الأفغاني الذي من المفترض أن يمهد الطريق أمام انسحاب القوات الأميركية من هذا البلد، في حين أن واشنطن قد تكون أقرب إلى خيار استدراج إيران لارتكاب خطأ في حساباتها بالتعامل مع الضغوط الأميركية وتشديد الخناق عليها اقتصادياً عبر تشديد العقوبات، في حال وجدت الإدارة أن حسابات الانتخابات ليست في صالحها، مستغلة إمكانية توظيف هذه المواجهة في تعزيز حظوظ ترمب، وهذا ما سيسمح لها بفرض مسار تفاوضي بشروطها، في حال استطاع ترمب البقاء في البيت الأبيض لولاية جديدة.
حسن فحص
اندبندت عربي