قبل أسابيع قليلة صدر قرار من المحكمة الدستورية العليا في تركيا يعترف، ضمناً، بمسؤولية الدولة ممثلة بمؤسسة الجيش عن ارتكاب مجزرة بحق سكان مدنيين في قريتين كرديتين في محافظة شرناق، قبل ستة وعشرين عاماً.
كان ذلك في العام 1994، حين قامت طائرتان من طراز فانتوم بإلقاء عدد من القنابل فوق بيوت ومدارس في القريتين، كانت حصيلة ضحاياهما نحو أربعين شخصاً أكثريتهم من الأطفال، من غير ذكر عدد الجرحى. وهرب بقية سكان القريتين إلى قرى مجاورة بعدما تهدمت بيوتهم. وذلك على خلفية حرب الجيش التركي ضد منظمة حزب العمال الكردستاني المتهمة بالإرهاب والنزوع الانفصالي، تلك الحرب التي بدأت في العام 1984 ولم تنته إلى اليوم، مروراً بمنعطفات كثيرة كان أبرزها ظهور بريق أمل في العام 2013 يبشر بنهاية سلمية للصراع الدموي الذي كلف تركيا عشرات آلاف القتلى. لكن الأمل ذاك سرعان ما أُخمِدَ وعادت الحرب بشراسة في صيف العام 2015.
حدثت عدة تمردات كردية مسلحة في تركيا الجمهورية تم قمعها بشدة في عهد أتاتورك، واستأنف الكرد تمرداتهم في مواجهة الدولة، بقيام الحزب الذي أسسه عبد الله أوجالان وقاده إلى حين وقوعه في يد السلطات التركية في عام 1999. وفي كل مرة كان الرد العنيف من الدولة يؤدي إلى مقتل مدنيين لا علاقة لهم بالصراع الدائر، لكن الدولة كانت تنكر ذلك وتزعم أن القتلى إرهابيون. مع أن «خسائر جانبية» تحدث في جميع الحروب، وكان بوسع الدولة التركية أن تبرر مقتل المدنيين بهذا التبرير المألوف. لكن اللغة المزدوجة التي تتحدث بها الدولة عن الإرهاب من جهة، وعن «أخوتنا الكرد» من جهة ثانية، في حين تستهدفهم حربياً بلا تمييز بين المنظمات المسلحة والسكان المدنيين، تدفعها للإنكار. من أسباب الإنكار أيضاً الصلف والجبروت اللذين تصدر عنهما الدولة، فلا تقبل بأن ينال منها اتهام بارتكاباتها بحق السكان.
والحال أن تلك الارتكابات كانت لها وظيفة محددة: إرهاب السكان المدنيين لكي لا يشكلوا حاضنة شعبية للمنظمة المسلحة. فالدولة تعرف أن المنظمة المسلحة لها قضية سياسية وليست مجرد عصابة إجرامية، وذلك بصرف النظر عن تقييمنا لأفعالها ومسالكها. قادة وأفراد ومناصرو حزب العمال الكردستاني يؤمنون حقاً بأنهم يناضلون ويقدمون تضحيات شخصية كبيرة في سبيل قضية سامية. وهي حال كل المنظمات الأيديولوجية المسلحة في العالم على أي حال، من الألوية الحمراء في إيطاليا إلى حزب الله الإيراني في لبنان إلى منظمة القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بداعش في سوريا والعراق. ويمكن اعتبارها نوعاً من استئناف لتراث حركات التحرر الوطني في المستعمرات في الخمسينيات وما قبلها. أما وصفها بالإرهاب فهو حديث نسبياً ويعبر عن تفرد أقوياء العالم بصلاحية تحديد ما يصح وما لا يصح.
ليته كانت لدينا في سوريا دولة ظالمة كالدولة التركية، يحدث أن يتحقق فيها العدل أيضاً ولو مرة واحدة، بدلاً من عصابة استولت على السلطة قبل خمسين عاماً فدمرت الدولة وقتلت السكان
غير أن ارتكابات الجيش التركي بحق السكان كثيراً ما أعطت نتائج عكسية يحق أن يتساءل المرء، بعقلية تآمرية، ترى هل النتائج العكسية هي التي كانت مرغوبة؟ وأقصد بالنتائج العكسية أن كثيراً من شبان القرى والبلدات الكردية ممن لم تكن لهم أي علاقة بالحزب الكردستاني ولا يهتمون بالسياسة عموماً، لجأوا إلى الجبال حاملين السلاح هرباً من الأعمال الفظيعة التي ترتكب بحقهم أو تجنباً للاعتقال والتعرض لأعمال تعذيب فظيعة كانت تجري بانتظام في سجن ديار بكر سيئ الصيت الذي تخرج منه مئات المنضمين لأول مرة للحزب الكردستاني. كيف اعترفت الدولة بارتكابها مجزرتين في قريتي كوشكونار وكوجاغيلي بعد ربع قرن من الإنكار المتواصل؟
نشرت بعض الصحف التركية، بهذه المناسبة، القصة المفصلة لملف القضية المستمرة منذ عقود، لا فائدة من تكرارها هنا. البارز في هذه القصة هو أن محامياً شجاعاً يدعى طاهر ألجي يعمل في مجال حقوق الإنسان تبنى القضية ولاحقها طوال سنوات من محكمة إلى نيابة عامة، وصولاً إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي أصدرت حكمها على الدولة التركية بالإدانة الصريحة وطالبتها بدفع ملايين الدولارات لضحايا المجزرة وذويهم. لكن الدولة التركية لم ترضخ لهذا القرار، فانتقلت القضية إلى المحكمة الدستورية في تركيا التي انتهى بها الأمر، بعد سنوات، إلى قرار يدين مؤسسة الجيش بارتكاب المجزرة. وفي غضون ذلك قُتِل المحامي طاهر ألجي برصاص أحد عناصر الشرطة في دياربكر في صيف العام 2015، إبان حرب الجيش على المناطق الكردية في ذلك العام.
تثير القصة أفكاراً كثيرة، سواء بخصوص الحياة السياسية في تركيا، أو للتعميم على أوضاع مشابهة في بلداننا. أولها أنه على رغم كل ما فقدته المؤسسة القضائية التركية من استقلال عن السلطة السياسية في السنوات الأخيرة، ما زال هناك محاكم وقضاة يتمتعون بشجاعة الإعلان عن مسؤولية الدولة عن ارتكاب فظاعات بحق سكان مدنيين. وثانيها أن العدالة المتأخرة قد لا تشكل أي عزاء للضحايا أو ذويهم، لكنها تفتح كوة أمل لكي لا تتكرر الفظاعات والإفلات من العقاب. وثالثها تساؤل عما إذا كان التحالف الحاكم في تركيا سيتعظ من قرار المحكمة فيراجع سياساته الشوفينية بحق الكرد، وتكميم أفواه المعارضين عموماً وزج كثيرين منهم في السجون.
أما نحن السوريين فليس لنا غير التحسر: ليته كانت لدينا في سوريا دولة ظالمة كالدولة التركية، يحدث أن يتحقق فيها العدل أيضاً ولو مرة واحدة، بدلاً من عصابة استولت على السلطة قبل خمسين عاماً فدمرت الدولة وقتلت السكان ولم تتخل عنها.
بكر صدقي