الباحثة شذى خليل*
يختلف تاريخ تأسيس الصناديق السيادية، لكن نستطيع القول إنها بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي، ثم انتشرت في عدة دول، بخلاف ما يعتقد البعض، حول أن تلك الصناديق ظاهرة حصرية في دول الخليج العربي، فهناك عدة دول حول العالم تمتلك صناديق مماثلة لها، ومن بينها النروج، والغرض من انشاء صناديق الثروة السيادية – من قبل حكومات الدول هو للتنمية الاقتصادية وحفظ الثروات والأصول وإدارتها بشكل منظم وصحيح واستخدام عدة استراتيجيات في الاستثمار لتحقيق الهدف المالي.
وتعد صناديق الثروة السيادية او (المحافظ السيادية)، وهي مُكلَّفة بإدارة تلك الثروات، وتحوي على أصول ثابته مثل الأراضي، عقارات تجاريه او الأسهم، السندات، نسب مباشره في تلك الشركات، وتسعى الحكومات إليها للمحافظة على ثرواتها من ناحية، وزيادة عوائدها من ناحية أخرى، أي أنها الذراع الاستثماري لدى الدول التي تمتلك فوائض مالية.
ونظرا للأهمية البالغة التي حظيّت بها صناديق الثروة السيادية، فقد أصبحت محط اهتمام المؤسسات المالية والنقدية العالمية، وكذلك الجهات المعنيّة بشؤون الاستثمارات، ومنها (المنتدى الدولي لصناديق الثروة السيادية) ( IFSWF ) الذي اتسع دورهُ في متابعة الأنشطة الاستثمارية لصناديق الثروة السيادية بعد الأزمة المالية العالمية سنة 2008 ، واعتبرَ هذه الصناديق أنها تمثّل عامل استقرار للتخفيف من تداعيات الأزمات من خلال اتباع مجموعة من أساليب الاستثمار لبعض من موارد الدولة المالية، على المستوى المحلي والدولي، من أجل تنمية هذه الموارد وحفظها في أصولٍ من الموجودات ضمن محفظة استثمارية تسهم في تنويع مصادر الدخل والثروة وتعزيز مسارات التنمية والنمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي للجيل الحاضر والأجيال القادمة.
كما يقوم (معهد صناديق الثروة السيادية) SWFI بمتابعة الأنشطة الاستثمارية التي تمارسها صناديق الثروة السيادية من خلال نشر التقارير الإحصائية المتعلقة بأصول واستثمارات هذه الصناديق .
وهي الطريقة المثلى للدول التي تتمتع بفائض مالي حالي تدخره لطارئ او ازمة مالية اقتصادية في المستقبل، ويجب أن يتم إنشاء أكثر من صندوق حتى يكون هناك تنوع وتوازن بالاستثمارات، وأن تتمتع بالحذر، وأن يتم إدارتها من خلال نخبة إداريين محترفين للحصول على النتائج المطلوبة وليس العكس .
ومن أهم أسباب إنشاء هذه الصناديق هو حاجة البلدان التي تمتلك مدُخرات كبيرة وتريد الحفاظ على هذه المدخرات، بل وتسعى لزيادة أرباحها، ولكن لا يتم استثمارها في أصول عالية الخطورة، حيث أنها مملوكة للدولة وتستثمر بالأصول التقليدية، حيث أن مدخرات بعض الدول تكون عبارة عن ملكيتها لثروة السلع (خصوصاً النفط والغاز)، كما هو الحال في الصين وسنغافورة اللتين لديهما فائض تجاري كبير.
أما بالنسبة للعراق فلا وجود لفكرة انشاء صندوق سيادي، والسبب في ذلك هو صرف كل فائض يأتي من خلال صعود اسعار النفط، والانفاق يكون استهلاكيا وتذهب لجيوب الفاسدين، وسبب هذا الانفاق غير المدروس هو العجز الدائم في اغلب موازنات العراق الاتحادية، ويجعله عرضة لأية أزمة، مثل الحرب مع داعش الذي احتل ثلث الأراضي العراقية، او انخفاض اسعار النفط الحالية بسبب تفشي كورونا الفتاك، والتي تكاد تمزق العراق وتفقده القدرة على دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين، وبالتالي فهو مرغم على الاقتراض من صندوق النقد والبنك الدوليين واللذين سيتحكمان به ويفرضان اجنداتهما ووصفاتهما الجاهزة على العراق.
في موضوع صناديق الثروة السيادية، من شأنه أن يوضّح، لماذا لم تتأثر اقتصادات الدول التي تمتلك مثل هذه الصناديق، بصدمات الأزمات المالية والاقتصادية مثلما يتأثر بها الاقتصاد العراقي الذي يُعد الثاني في الاحتياطيات النفطية وانتاج النفط في المنطقة، ورغم ذلك لم يتمكن من انشاء صندوق سيادي أو مؤسسات استثمارية حكومية تكون داعمة ومعززة لاقتصاد السوق وتنويع إيرادات الاقتصاد الوطني وتقليل اعتماده على ايرادات النفط.
لقد شهدّت التخصيصات المالية في موازنات العراق السنوية خلال المدة 2003 – 2019 توسعا كبيرا، حيث بلغ اجمالي هذه التخصيصات نحو (1460,519,947) تريليون دينار لمجموع موازنات المدة المذكورة، ومن الخصائص التي اتسـمّت بها هذه الموازنات انّها غالبا ما تبدأ بعجزٍ وتنتهي بفائض على الرغم من ممارسات الهدر والفساد المالي التي وقعت عليها، حيث انّ معظمها شهدّ تحقيق فوائض مالية في نهاية مدة التنفيذ، ما عدا بعض السنوات القليلة التي كان فيها عجزا فعليا .
وفي اطار ذلك، لم يُشكّل العائق المالي سبباً أساسياً في عدم انشاء صناديق للثروة السيادية كما فعلت معظم الدول النفطية الأخرى، وانّما العامل الأهم في هذا المجال هو سـوء الإدارة للموارد النفطية التي أسهمت في تضخيم التخصيصات المالية في الموازنات السنوية للدولة، مع تدنّي مستوى المنجزات من المشاريع التنموية والخدمات الاجتماعية .
ولذلك فإنّ العبرة ليست في امتلاك الدولة لمؤسسات استثمارية وصناديق للثروة السيادية، وانّما في الآليات والأساليب التي تتبع في إدارة هذه المؤسسات ، ومستوى النزاهة والشفافية التي تعمل بموجبها، كمؤسسات مهنية مسـتقلة في قراراتها الاستثمارية .
انّ بلوغ مستوى مناسب من الكفاءة والفعالية في إصلاح عملية إدارة موارد النفط في العراق، ينبغي أن يكون في اطار سياسات حكومية للاستثمارات تقوم على أساس توزيع موارد النفط بين الانفاق الجاري والانفاق الاستثماري المعوّض عن النضوب والداعم لعملية تنويع ايرادات الدولة المالية ، والتي تكون إحدى مرتكزاتها صناديق الثروة السيادية ، ويتطلب ذلك من جملة ما يتطلب ، مراعاة الاعتبارات التالية :
1. مدى قدرة الدولة على ضبط النفقات الحكومية التشغيلية الجارية في نطاق الاصلاحات الاقتصادية والإدارية بغية التخلص من أعباء النفقات الزائدة ، وتلك التي يمكن تقليصها وإعادة هيكلتها على وفق الاحتياجات الضرورية ومعايير الانتاجية، وتجاوز حالات الهدر والتبذير .
2. إصلاح أساليب وأنماط الاستثمار ، حيث أن الولوج في مشاريع استثمارية فاشلة ومتلكئة يسودها الفسـاد هو أشـدُ وقعاً وتأثيراً على الاقتصاد الوطني، وذلك لتأثيراتها السلبية الكبيرة والمباشرة على بناء وتطوير رؤوس الأموال الوطنية الجديدة المعوّضة عن النضوب، فضلا عن تقويض دور الدولة في عملية التنمية وتوفير البنى التحتية والخدمات الاجتماعية .
3. مدى القدرة على توفير الظروف والبيئة الملائمة لعمل صناديق الثروة السيادية على المستويين المحلي والدولي، والالتزام بمعايير الشفافية في إدارة الثروات والعمليات الاستثمارية ، وتحقيق الارتباط الوثيق بين عمل الصناديق واحتياجات التنمية الاقتصادية في التنويع الاقتصادي والمالي .
ومن المعروف ان الاقتصاد العراقي ريعي يعتمد وبشكل كبير على إيرادات النفط، ليس لأنه دولة فقيرة، بل سوء إدارة الثروات وسوء إدارة الدولة من أهم الأسباب وراء ضياع ثرواته المتعددة.
تم تعطيل كل القطاعات الانتاجية من صناعة وزراعة وسياحة وتعدين ونقل ليبقى العراق بلدا مستوردا من إيران، وبلدا استهلاكيا غير منتج، وبقي اقتصاده اقتصادا ريعيا وحيد الجانب وموازناته دائما فيها نسبة من العجز، فعلى سبيل المثال بلغت موازنة العراق لعام 2017 ( 79 ) تريليون و11 مليار و421 مليون دينار بنسبة عجز 21 تريليون و659 مليار و39 مليون و790 ألف دينار . بينما بلغت موازنة 2018 (91 تريليون) و643 مليار و667 مليون و 236 ألف دينار وبعجز اجمالي قدره ( 12 تريليون ) و514 مليار و 516 مليون و 492 ألف دينار . اما موازنة عام 2019 فبلغت 106 تريليون و88,5 مليار دولار وبعجز اجمالي 23 مليار دولار .
أما إيرادات الموازنة العامة الاتحادية للسنة المالية / 2020 فتقدر بمبلغ 67425220454 الف دينار عراقي (سبعة وستون تريليونا واربعمائة وخمسة وعشرون مليارا ومئتان وعشرون مليونا واربعمائة وأربعة وخمسون الف دينار عراقي ) هذه حسب الأسعار المخمنة من تصدير النفط الخام على أساس معدل سعر 40.51 دولارا ( أربعون دولار واحدى وخمسون سنتا) للبرميل الواحد ومعدل تصدير حوالي ثلاثة ملايين برميل يوميا بضمنها 250 ألف برميل يوميا من إقليم كردستان على أساس صرف 1182 دينار عراقي لكل دولار امريكي .
اما النفقات:
تم تخصيص مبلغ 148606809164 الف دينار (مائة وثمانية واربعون تريليونا وستمائة وستة مليارات وثمانمائة وتسعة ملايين ومائة وستون الف دينار عراقي . وتقسم الى :
1- النفقات التشغيلية: 102161889881 دينار .
2- البرامج الخاصة 1502306231 دينار.
3- المديونية المتمثلة بأقساط الدين الداخلي والخارجي 9646938000 دينار وتتفرع الى الكثير من التخصيصات للمشاريع الاستثمارية بتفاصيل كثيرة ومتشعبة .
فكيف سيكون للعراق فائض من الأموال لتأسيس صندوق سيادي يساعد على تنويع مصادر الدخل من خلال الاستثمار ويحفظ حقوق الأجيال القادمة ويعتمد عليه في ايام الأزمات والمحن العصيبة؟
علما ان قروض العراق الكبيرة التي كبل العراق بها نفسه تذهب الى جيوب الفاسدين والى الاستهلاك والبذخ وهدر المال العام من قبل القوى المتنفذة، ولا توجه هذه القروض لإقامة مشاريع انتاجية صناعية او زراعية وسياحية وغيرها يمكن ان تدر عليه اموالا ترفد بها خزينة الدولة، في حين نجد ان قروض البنك الدولي الى اليابان يرجع عليها الاقتراض بالفائدة لأنها تستثمر هذه الأموال وتسدد القروض من الأرباح. اما بالنسبة للدول المستهلكة مثل العراق فهو يقترض ليسد احتياجات استهلاكية وليس لإقامة مشاريع انتاجية ثم يقترض مرة اخرى فتتراكم عليه الديون وفوائدها . ونجد ان نسبة كبيرة من الموازية العامة تذهب لتسديد الديون وفوائدها الكبيرة وهذا هو الفرق بين اليابان والعراق .
ومن أهداف الصناديق السيادية:
• حماية ثروة البلد واستثمارها بشكل صحيح، حيث يمكن اللجوء إليها في المستقبل عند الحاجة إليها مثلاً في الأزمات الاقتصادية التي يتعرض لها البلد بشكل مفاجئ .
• حماية الاقتصاد الوطني والميزانية العامة للدولة من خطر الأزمات الخارجية التي تأتي نتيجة للتقلبات الناتجة من مداخيل إيراداتها والصادرات.
• مبدأ العدالة الذي يتحقق من خلال توزيع الثروة بين الأجيال عن طريق تعظيم الادخار الذي يذهب الى الأجيال القادمة.
• تنويع دخول الدولة وبالتالي العمل على تقليل الاعتماد على الصادرات السمعية غير المتجددة.
• زيادة عوائد الاحتياطيات للصرف الأجنبي.
• تساعد السلطة النقدية على سحب السيولة غير المرغوب بها.
• توفير أداة لتمويل برامج التنمية الاقتصادية.
• تحقيق نمو مستدام طويل الآجل في الدول المالكة للصندوق.
• تحقيق أهداف سياسية واقتصادية واستراتيجية
• معالجة وجود آثار سلبية نتيجة للتدفقات المالية الناتجة عن الثروة الطبيعية، وهذا ما يعرف بـ(المرض الهولندي) The Dutch disease، الذي يسبب آثار غير مرغوب بها في القطاعات الإنتاجية، وخاصة الصناعية نتيجة لاكتشافات النفط.
ختاما.. العراق بموارده العظيمة المتاحة في الاقتصاد يجب ان يتم استخدامها بكفاءة وبنزاهة من قبل صنّاع القرار والجهات التنفيذية وفق منهج العقلانية الاقتصادية Economic Rationality وينشئ الصندوق السيادي للبلد، في سبيل تعجيل عملية التنمية واللحاق بركب العالم الصناعي المتقدم .
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية