لعل إحساس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه هو شخصياً الذي تعرض للخيانة، كان وراء اتهامه الطبقة السياسية اللبنانية بارتكاب «خيانة جماعية» حين أفشلت جهود المكلف بتشكيل الحكومة مصطفى أديب، فأسقطت بذلك خارطة طريق فرنسية تعهد بها أولئك الساسة أمام ماكرون خلال زيارته الثانية إلى بيروت. فمن الواضح أن الإليزيه لم يتقدم بتلك المبادرة، خلال زيارتين متعاقبتين، من منطلق تعزيز العلاقات التاريخية بين فرنسا ولبنان فقط، بل كذلك لأن تحسين شعبية ماكرون داخل فرنسا كان هدفاً مرتبطاً مباشرة باكتسابه شعبية استثنائية لدى اللبنانيين، وبالتالي فإن النجاح أو الفشل كان يضع سمعة الرئيس على المحك.
واضح أيضاً أن تشديد ماكرون لهجة الهجوم على حزب الله تحديداً كان ناجماً عن خيبة أمل إلى جانب الإحساس بالخيانة، إذْ أن الرئيس الفرنسي غامر خلال زيارتيه إلى بيروت بالتعامل مع الوجه السياسي للحزب على صعيد كتلته البرلمانية، مراهناً كما يبدو على تعهدات قطعها ممثل الحزب في اجتماعات قصر الصنوبر. ولقد تناسى ماكرون أن مركز قرار حزب الله ليس في بيروت بل في طهران، وأن المعادلات السياسية والأمنية والعسكرية والمالية لوجود الحزب لا تخدم أجنداته على الساحة اللبنانية في المقام الأول. وما دامت إيران تواصل الانخراط في مواجهة شاملة مع الإدارة الأمريكية الراهنة، فإن التعطيل في لبنان هو جزء من لعبة التناطح الإقليمية مع واشنطن، ولن تهدئ طهران من حدّتها رغبة في التضامن مع شعب لبنان ومآسيه.
كذلك يتناسى ماكرون أن الغالبية الساحقة من ساسة لبنان على ارتباط بجهات عربية وإقليمية خارجية، ولهذا لم يكن مستغرباً أن يتوجه الرئيس الفرنسي بالانتقاد إلى حليف لفرنسا مثل سعد الحريري على خلفية إدخال الأخير عنصراً طائفياً إلى جهود تشكيل الحكومة، وكأن ماكرون يجهل طبيعة ارتباطات الحريري الخارجية وأنه تدخّل شخصياً لدى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لإنهاء احتجازه في الرياض. وبينما نفى الرئيس الفرنسي لجوءه إلى وساطة إيرانية لدفع حزب الله إلى تسهيل تشكيل الحكومة، فإن جميع المؤشرات كانت تقول إن العاملين الإيراني والسعودي كانا في صلب تعثّر مصطفى أديب واعتذاره عن التشكيل في نهاية المطاف.
غير أن جوهر الاستعصاء الأهم لا يكمن في باريس بالطبع، ولا في أي عاصمة إقليمية أو دولية، على أهمية ارتباطات لبنان الخارجية، ولكنه يقع في قلب طبقة سياسية فاسدة بقدر ما هي عاجزة، وقاصرة بقدر استعدادها لخيانة آمال الشعب اللبناني أو ملاقاة آلامه، حتى بعد كارثة كبرى مثل انفجار مرفأ بيروت الذي توّج سلسلة من مآسي الفساد والغلاء وهبوط العملة الوطنية وانحطاط الخدمات والواقع المعاشي المزري وغياب الدولة.
ولم يكن ماكرون مخطئاً حين أعرب عن إحساسه بالخجل من هؤلاء الساسة، ولا مخطئاً بالطبع في إعلان استمرار تضامن فرنسا مع اللبنانيين وإبقاء خارطة الطريق الفرنسية على الطاولة، ولكن لعل خطأه المتأصل والمتواصل هو إمهال الطبقة السياسية اللبنانية فرصة إضافية لتشكيل حكومة كفاءات إنقاذية، وكأن دروس فشل مصطفى أديب وقبله حسان دياب ليست كافية للحكم على أقصى ما تستطيع تقديمه هذه القيادات السياسية، الفاسدة والفاشلة والمتواطئة على تحويل لبنان إلى حالة انهيار حثيث ودائم.
القدس العربي