محنة الحراك الجماهيري العربي

محنة الحراك الجماهيري العربي

436x328_13518_172499

مرت حركة الجماهير العربية بمراحل بالغة التباين في التاريخ المعاصر للوطن العربي، ففي مرحلة المد القومي التي شغلت معظم عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين لعبت هذه الجماهير دوراً أساسياً في دعم معارك التحرر العربي وعلى رأسها معركة تحرير الجزائر، وكذلك في دعم مصر التي كانت تقود هذه المعارك وتساندها في مواجهة أعمال العدوان الخارجي كما في عدوان السويس 1956 وكافة محاولات الضغط الغربية على مصر كي تغير سياستها التحررية، ودعم توجهات التصدي لمحاولات اختراق النظام العربي بالسعي إلى إلحاقه بنظام الأحلاف الغربية كما في معركة «حلف بغداد» في 1955، وأخيراً دعم الصمود المصري والعربي في مواجهة آثار هزيمة 1967 حين خرجت الجماهير المصرية والعربية مؤكدة تصديها لمحنة الهزيمة. وحافظت الجماهير العربية على صمودها حتى تحقق إنجاز أكتوبر 1973 إلى أن بدأت عملية السلام المصري- الإسرائيلي اعتباراً من زيارة السادات للقدس في 1977 وحدوث الفرقة المصرية- العربية ثم الفرقة داخل الدول العربية التي رفضت المسلك المصري. وبعدها مرت الجماهير العربية بمرحلة سكون واستسلام بل موات فلم تحرك ساكناً في مواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان في 1982، وكان تحركها بالغ الضعف في مواجهة غزو صدام حسين لدولة الكويت في 1990، ثم غزو الولايات المتحدة للعراق في 2003. وحتى في الحالات التي بدا فيها أن ثمة صحوة جماهيرية قد حدثت كما في حالتي الانتفاضة الفلسطينية 1987 و2000 فإن هذه الصحوة كانت مؤقتة وعادت الأمور بعدها إلى سيرتها الأولى. وقد برر كثيرون هذا الموات الجماهيري بقمع بعض النظم الاستبدادية حركة جماهيرها، وهو تبرير غير كافٍ لأن أعظم مظاهر حركة الجماهير العربية تم في إطار نظم غير ديمقراطية. وأغلب الظن أن الإحباط العربي العام من هزيمة 1967 أولاً ثم من الفرقة والصراعات العربية ثانياً، كان له دور رئيسي في هذا الصدد، بالإضافة إلى غياب المؤسسات الشعبية القادرة على حفز حركة الجماهير، وتفاقم المشكلات الاقتصادية لقطاعات واسعة من الجماهير العربية بحيث بات السعي من أجل لقمة العيش أهم من النضال القومي.

ومع تفجر موجات ما سمي «الربيع العربي» بدا أن هناك إحياءً لحركة الجماهير بدليل أن هذه الحركة أسقطت نظماً حاكمة في تونس ومصر واليمن وليبيا وكادت تفعل في سوريا، وبعدها زاد حراك الجماهير بصفة عامة ولكن سلبيات حقيقية شابته منها مثلاً الفوضى التي انطوى عليها هذا الحراك في حالات ليست بالقليلة بسبب غياب البعد المؤسسي، أو ضعفه في التحركات الجماهيرية وسعي التنظيمات المتسترة بالدين الإسلامي لاختراق حركة الجماهير واستغلالها بسبب العامل السابق كما حدث في دول ما يسمى «الربيع العربي» فضلاً عن تعرض التحركات الجماهيرية للتخريب والإفساد من قبل قوى غير ذات مصلحة في تحقيق أهداف الجماهير ومطالبها. وهكذا رأينا تعرض التحركات الجماهيرية العراقية ضد الفساد مؤخراً لاعتداءات من عناصر مجهولة، والتحركات الجماهيرية اللبنانية للاختراق من قبل عناصر حولت جانباً من هذه التحركات من كونها تحركات مطلبية ذات طابع بيئي وسياسي إلى أعمال شغب ونهب ممنهجة. وقبل هذا كله لا ننسى الاتهام الموجه لقوى عالمية وإقليمية بالعمل على اختلاق حركات احتجاجية تحقق بالوعي أو باللاوعي مصالح هذه القوى المتهمة بأن لديها خططاً حقيقية لإعادة رسم خريطة المنطقة بما يتسق وهذه المصالح، ولا ننسى أن ثمة معلومات محددة تفيد بدور هذه القوى في توجيه عناصر وتنظيمات وتدريبها وتمويلها بحيث لعبت أدواراً محددة في التحركات التي أفضت إلى ما يعرف ب«الربيع العربي»، ولا يقصد بهذا أن تلك الأحداث كانت برمتها صناعة خارجية فقد كانت أساساً ذات دوافع أصيلة تنبع من الأوضاع السائدة في البلدان التي شهدتها.

وهكذا تواجه حركة الجماهير العربية بعد أن تجاوزت مرحلة السكون والاستسلام تحدي الحفاظ على وجهتها السليمة، وهو ما يرسي مسؤولية جسيمة على مخططيها وقادتها الذين يتعين عليهم توخي دقة الحسابات وحسن التنظيم وسلامة التوقيت حتى لا تستغل من القوى المتربصة بالسوء للوطن العربي فتعمق محنته وتطيل أمدها.

د. أحمد يوسف أحمد

صحيفة الاتحاد