اصطدمت الكرة بالعارضة في اللحظات الأخيرة من المباريات، وتنفس أرسين تاتار الصعداء، بعد فوزه في مواجهة الإياب، وحسب النتائج المعلنة في معركة انتخابات رئاسة جمهورية قبرص التركية، بنسبة 52% من مجموع الأصوات أمام خصمه مصطفى أقنجي الذي حصل على 48%، وهي نسبة لم تمكّنه من البقاء فترة ثانية في هذا المنصب. وكانت معركة الانتخابات الرئاسية في شمال قبرص طاحنة، ولم تختلف كثيراً عن آخر أربعة انتخابات سابقة، لناحية الأجواء السياسية والحزبية المشحونة، ودخول عامل وباء كورونا على الخط، لردع الناخبين، وتهديدهم بعدم مغادرة منازلهم. ولكن ما أضفى على الأجواء كل هذا الاحتقان، هو التعبئة التي واكبت المعركة الانتخابية محلياً وإقليمياً، خصوصاً مع بروز رغبات إقليمية كثيرة دخلت على الخط، للتأثير في النتيجة، ومحاولة إلحاق الهزيمة بتاتار، ومن ورائه تركيا التي وجدت نفسها أمام مخطط إضعافها وإخراجها من الجزيرة.
كانت المواجهة في معركة انتخابات رئاسة قبرص التركية، في العلن، بين متنافسين على منصب الرئاسة، لكنها في الخفاء كانت معركة مشروعين وحلمين كبيرين يتصارعان في شمال الجزيرة، تركيا وداعميها من جهة، وأوروبا وهدف السيطرة الكاملة على قبرص لإنزال الضربة القاضية بأنقرة وسياستها القبرصية من جهة أخرى.
رغبات إقليمية كثيرة دخلت على خط الانتخابات القبرصية، للتأثير في النتيجة، ومحاولة إلحاق الهزيمة بتاتار، ومن ورائه تركيا
صحيحٌ أن أقنجي هو الذي انتقد عمليات تركيا العسكرية في سورية، وأعلن صراحةً دعمه الحل الفيدرالي في قبرص، وأبدى انفتاحه الواسع على القبارصة اليونان والاتحاد الأوروبي، وخريطة التفاهمات الجديدة مع نيقوسيا برعاية بروكسل، وهو الذي اتهم أنقرة، من دون أن يسميها، بالتدخل في شؤون قبرص التركية، ومحاولة التأثير بقرار الناخب، من خلال دعم مرشحٍ على حساب مرشحٍ آخر. وصحيح أيضاً أنه هنّأ منافسه، وقال إنه كان يتطلع إلى فوز الديمقراطية مرة أخرى، ففشل وألمح إلى أنه سيعتزل العمل السياسي، بعد هذه الخسارة، لكنه لم يتردّد، وهو يلقي كلمة الخسارة، في أن يذكّر ناخبيه بمسار العملية الانتخابية، وكيف شهدت تدخلاتٍ كثيرةً، رافقتها تطوراتٌ عديدة كانت تصبّ في مصلحة خصمه، وترك الأبواب مشرعة أمام داعميه، إذا ما رأوا ضرورة في الاعتراض على نتائج الانتخابات، وهو ما يتعارض مع قبوله النتيجة، وقرار الانسحاب من المشهد السياسي.
لن يتراجع أنصار أقنجي الذين دعموه مرشحاً مستقلاً عن قرار مواصلة المعركة، على الرغم من خيبة الأمل التي يعيشونها اليوم
حتماً، لن يتراجع أنصار أقنجي الذين دعموه مرشحاً مستقلاً عن قرار مواصلة المعركة، على الرغم من خيبة الأمل التي يعيشونها اليوم، وعلى الرغم من خروج المواطن للاقتراع متحدّياً الوباء، مقارنةً بنسب المشاركة في الجولة الأولى من المعركة، لقول ما عنده، وحسم النتيجة. هناك أطراف إقليمية ودولية يتقدّمها كل من له مع أنقرة حساباتٌ يريد تصفيتها في شرق المتوسط. لن يستسلم أقنجي وحلفاؤه، على الرغم من الهزيمة. سيحاولون الوصول إلى ما يريدون عبر عرقلة التشكيلات الحكومية والتحالفات الحزبية في شمال الجزيرة، ودفع الأمور نحو أزمة انتخابات برلمانية دائمة على الطريقة الإسرائيلية.
لا يعني انتصار تاتار وصوله إلى مقعد الرئاسة فقط، بل إفشال مشروع إضعاف تركيا في قبرص الشمالية، وفتح الطريق أمام مخطط تسوية فدرالي معدل لخطة كوفي أنان المعلنة عام 2004، تدعمه المجموعة الأوروبية وأميركا، وينهي حلم الدولة المعلنة في مطلع الثمانينيات، وكل ما بذلته أنقرة من جهود منذ الخمسينيات في شمال الجزيرة. كذلك إن أهمية فوز تاتار في توجيه صفعة قوية إلى خطة إلحاق قبرص الجزيرة بمشروع الهيمنة الأوروبية على مياه شرق المتوسط، عبر إنزال ضربة قاسية بتركيا وسياستها ومصالحها القبرصية، وإخراجها استراتيجياً من أحد أهم حصونها المتقدمة، وبوابة عبورها إلى المتوسط، حيث تقاسم القبارصة الأتراك قدرها هناك منذ قرون، وقطع الطريق على تحرّكات التنقيب عن الطاقة أمام السواحل الشمالية للجزيرة، بناءً على اتفاقيات وعقود ثنائية مع أنقرة.
حذّر مصطفى أتاتورك في مطلع العشرينيات “من وقوع قبرص بيد الأعداء”، لأن ذلك يعني قطع الطريق على خط الإمداد والتواصل التركي البحري مع أكثر من بقعة جغرافية
فارق خمسة آلاف صوت بين المرشحين يعني الكثير بين الناخبين في قبرص الشمالية، بناءً على عدد السكان ونسبة المشاركة، لكنه يعني أكثر في جزيرة قالت لا لمشروع الفيدرالية الأوروبية، من دون حماية قانونية ودستورية وسياسية واضحة لحقوق القبارصة الأتراك. وقالت لا أخرى للرهان على تقديم الشعارات الرنانة، ومحاولات إغراء المواطن بالعروض الأوروبية على حساب هويته القومية والعرقية، وعلاقته بالوطن الأم، والدليل أن العلم التركي لم يفارق الساحات في مدن الشمال، بعد إعلان فوز تاتار، بعدما كان بعضهم يستعد لإعلان فوز أقنجي، انطلاقاً من مشهد التحالفات الحزبية الموعودة التي فشلت أمام العامل القومي والرغبة في الدفاع عن هوية الانتماء إلى الأرض، والتمسّك بالتحالف مع الوطن الأم.
كانت دروس الجولة الأولى للمعركة الانتخابية مهمةً للجميع في قبرص التركية. ولذلك جاءت النتائج بعد محاكمة الخيارين: إما تبنّي خريطة الطريق الأوروبية، وقبولها رزمة متكاملة توفر الحل، أو التمسك بالشراكة مع تركيا التي تعود إلى عقود طويلة، بكل ما شهدته من وحدة قدر ونضال، على الرغم من صعوباتٍ ومطباتٍ كثيرة. وكان فوز أقنجي سيتحول إلى هزيمة استراتيجية إقليمية أُلحِقَت بتركيا. وسيعني فوز تاتار العكس إذاً، سيكون له ارتداداته على العلاقة بين القبارصة في الشمال، لكنه يحمل رسائل إلى سكان جنوب الجزيرة، خصوصاً أنه خاطبهم بالإنكليزية، بعد إعلان النتائج، يدعوهم إلى تحليل حقيقة ما يقوله وما يريده أبناء قبرص الشمالية وفهمه، بعد هزيمة مرشّح مشروعهم الذي وعدهم بانتصار سياسي على تركيا وإنهاء نفوذها في الجزيرة.
خلطت نتائج انتخابات الرئاسة في قبرص الشمالية الأوراق المحلية والإقليمية مجدّداً
خلطت نتائج الانتخابات في قبرص الشمالية الأوراق المحلية والإقليمية مجدّداً، وهي مهمة لسكان شمال الجزيرة، لكنها مهمة أيضاً لكل سكانها ولتركيا وأوروبا. ويعني فوز تاتار تراجع المشروع الأوروبي الهادف إلى تحويل الجزيرة إلى قاعدة عسكرية بحرية قريبة من اليابسة التركية لربيع آخر، وهي فرصة لتعديل ملف الحل الأوروبي، بناءً على احترام قرار الناخب القبرصي في الشمال، فهل تفعل بروكسل ذلك، أم تتجاهل ما جرى، وتواصل محاولات طمس الهوية التركية، وتحويل المواطنين في تلك البقعة إلى أقليةٍ عرقيةٍ حُكم عليها بالقضاء والقدر الأوروبي المتمسّك بالهيمنة الاستراتيجية على الجزيرة، بوابة عودته إلى شرق المتوسط والشرق الأوسط لمنافسة النفوذين، الأميركي والروسي، هناك؟
حذّر مصطفى أتاتورك في مطلع العشرينيات “من وقوع قبرص بيد الأعداء”، لأن ذلك يعني قطع الطريق على خط الإمداد والتواصل التركي البحري مع أكثر من بقعة جغرافية. والترجمة الحالية لهذا الكلام هي التحذير من محاصرة تركيا في شرق المتوسط، وعزلها أمام سواحل ضيقة، على الرغم من امتلاكها أطول ساحل بين الدول المتشاطئة. وقد تسلمت قيادات حزب العدالة والتنمية الرسالة من أتاتورك، ووسعت مضمونها، من خلال تمسكها بعلاقاتها الاستراتيجية مع قبرص التركية، وقرار مواجهتها اصطفاف القاهرة في شرق المتوسط الذي يجمع كل من يريد الانتقام من الأتراك، تاريخياً وعرقياً واقتصادياً وإيديولوجياً، وعبر محاولة الإيقاع بهم في شمال قبرص.
سمير مصالحة
العربي الجديد