الصين.. إمبراطورياً

الصين.. إمبراطورياً

images

اهتزت بورصة في الصين، فأصيب الاقتصاد العالمي بهلع، راح سياسيون يدققون في استراتيجياتهم، ورجع بعض كبار علماء السياسة إلى كراريسهم ينقحون ما شاب بعض صفحاتها من قصور في الرؤية، بينما عاد آخرون إلى تلاميذهم وقرائهم لتأكيد تصورات بدت على وشك أن تتحقق، كان من أغرب ما قرأت هذا الأسبوع ما كتبته خبيرة اقتصادية غربية تعقيباً على هزة البورصات، كتبت تحذر من عواقب جسيمة على الاقتصاد العالمي «نتيجة نقص الخبرة وقلة التجربة الرأسمالية لدى النخبة الحاكمة في الصين».

تعرفت مبكراً على الثورة الصينية، عرف عني منذ ذلك الحين ميلي إلى تيار شبابي نقدي رفض أفراده السير عمياناً في ركاب الفكر السياسي الغربي، سواء ما صدر منه عن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي تحديداً أو ما صدر عن الشرق الأقصى والصين بخاصة، تعلمت من احتكاكي بتجارب آسيوية، أن مسيرة الأمم لا تتوقف بنشوب ثورة فاشلة أو بنجاحها، كما أنها لا تتوقف بنشوب الحروب ووقوع الكوارث، حتى وإن كانت مدمرة، مسيرة الصين في العصر الحديث لا تختلف عن مسيرات دول «تاريخية» أخرى، مرت مثل غيرها من الثورات بمراحل، وإن بدت كل واحدة فيها مختلفة عن سابقاتها، إلّا أنها في واقع الأمر ليست سوى خطوات متصلة على الطريق نحو هدف واضح، هذا الهدف هو استعادة إمبراطورية الصين العظمى.
نعرف الآن أن العباقرة من قادة الاستعمار الغربي قرأوا تاريخ الصين، وعرفوا أن للصينيين منذ القدم طموحات تجاوزت حدود الصين الجغرافية والثقافية، وأن جميع عهود «العظمة» في الصين اهتمت ببناء القوة العسكرية والإدارية القادرة ليس فقط على حماية أراضي الصين الشاسعة، بل والجاهزة للدفاع عن طرق التجارة ضد غزوات وتجاوزات «البرابرة»، أي الأجانب، كل الأجانب.
عرف القادة «البرابرة» أن الصين إذا نهضت فنهضتها ستكون على حساب الغرب، لذلك تكالبوا عليها لوأد أجنة النهضة أينما وجدت.
تصورت دائماً، أو على الأقل منذ أن تعرفت على الصين، أن مرحلة الرئيس ماو في إدارة دفة الصين، ثورة ودولة، كانت المرحلة الأم والأهم في مسيرة بناء الصين الحديثة.
بقليل من المبالغة وكثير من التعاطف أعتبرها المرحلة «التي لا غنى عنها»، بمعنى أنها لو لم تقع، لما قامت الصين الحديثة، ولما كنا نتحدث اليوم في هذه السطور عن إمبراطورية جديدة توشك على البزوغ، لقد قاد ماوتسي تونغ مرحلتين أساسيتين، قاد مرحلة الثورة، وهي المرحلة التي خطط لها لتحقق شرطين ضروريين لقيام دولة عصرية، أولهما تحديث الفلاح الصيني، بمعنى إقناعه بأهمية التخلص من عناصر الإقطاع، وبخاصة من البيروقراطيين الكبار وأمراء الحرب، وأهمية أن يتحرك، بمعنى التمرد على المكان والتقاليد التي أخضعته لقدر أو مصير ليس من صنعه، الشرط الثاني لخصته حملة ماو العسكرية والثورية لاستعادة التوازن بين الداخل الصيني الذي أصابه الاهتراء الاجتماعي وبين الساحل، حيث تراكمت أكوام الفساد وقوى الاستعمار الغربي والياباني وقلاع تجارة الأفيون وشركات شراء النساء والأطفال، هناك على الساحل تعيش الصين المختلفة جذرياً عن الصين المقيمة في الداخل، ولم يكن متصوراً بأي عقل أو خيال في ذلك الحين أن تندمج «الصينيتان» في دولة واحدة، ما لم يتم القضاء بشكل قطعي وحاسم على فساد الساحل، وبالفعل حوصر الساحل من كانتون في أقصى الجنوب إلى تيينسين شرقي بكين في أقصى الشمال بقوى الثورة المسلحة التي قامت بتطهيره قبل السماح له بالعودة إلى الوطن.
بدأت المرحلة الثانية بإعلان قيام جمهورية الصين الشعبية، وتولي ماو رئاستها، وهي المرحلة التي شهدت استخدام أقصى درجات العنف والقمع والتوعية والإصلاح لتخليص البلاد، بساحلها وداخلها، من أمراض عصر الإمبريالية الغربية، وقتها كتب مفكرون غربيون عن شعور المهانة الذي كرسه الاستعمار الغربي بكل الأدوات والصور الممكنة، من لافتات على مداخل مباني ونواصي شوارع في العاصمة بكين، وجميع مدن الساحل تحظر على الكلاب والصينيين دخولها، إلى تقسيم شنغهاي مثلاً إلى أحياء، كل حي منها يحمل علم دولة غربية.
كان لابد في تلك المرحلة الثانية بث الشعور بالكرامة لدى الفرد، وهو ما استدعى توظيف الناس في أعمال إنتاجية ولو صورية في البداية، مثل تشغيل أفران صهر الحديد والصلب التي كانت تقام في الشوارع وداخل المجمعات السكنية، كذلك استدعى القضاء، بالعنف أو بالإقناع، على عادة تعاطي المخدرات وإخلاء الأزقة والشوارع من القمامة وطلاء المباني، استدعى أيضاً عزل البلاد بشكل كامل عن العالم الخارجي، والاعتماد على الناتج المحلي لتوفير الحد الأدنى من الغذاء والكساء، وتعبئة الرأي العام وراء شعار «سنتفوق على بريطانيا العظمى»، الهتاف الذي أصبح حقيقة.
الثمن باهظ.. ولكن هل كان يمكن لأمة ممزقة الأوصال، مستباحة ثرواتها وعقولها وتقاليدها وفاقدة لروحها أن تستقل وتستعيد كرامتها ثم تنهض من دون أن تدفع ثمناً باهظاً؟ هل كان يمكن للصين التي عرفناها من كتب الرحالة ورسائلهم ومذكراتهم منهارة ومهلهلة أن تبدأ عملية بناء الدولة الحديثة من دون المرور بتجربة بناء الفرد المنتج؟ دفعت الصين الثمن، وكان، بالفعل، باهظاً، دفعته تحت اسم ثورة ثقافية زهقت فيها أرواح وأهدرت مصالح، وضاعت وظائف واختفت قيادات وانتشرت فوضى رهيبة وخلت الساحة السياسية إلّا من بعض من كانوا الأصغر سناً في جيل الثوار الأوائل.

أفرزت الثورة الدائمة، في صيغتها المسماة بالثورة الثقافية، دنغ تشاوبينغ وجماعته التي جاءت إلى السلطة في أمة موحدة ودولة قوية وشعب متعلم ومدن وقرى تطهرت من الإقطاع والأفيون وعصابات الإجرام، جاءت في أمة جاهزة للانتقال من مرحلة بناء الدولة القوية إلى مرحلة بناء الدولة الحديثة والانفتاح على العالم.

عقد الزعيم الجديد العزم على صيغة بناء مختلفة إيديولوجياً، واختار ثلاث وصايا لخلفائه أثبتت التجربة جدواها وحكمتها، أوصى بأن يأخذ الاقتصاد مناحي محلية، تتمتع بحرية بعيداً عن تدخل السلطة المركزية، واعياً إلى أن هذه الحرية تعني أن مناطق في الصين ستتقدم اقتصادياً، بينما تبقى مناطق أخرى متخلفة، ولكن المقدر أن المد التنموي سوف يرفع القوارب كافة.
أوصى ثانياً بمنع أي فرد في السلطة من السيطرة على النظام السياسي، بحيث لا يقوم في الصين ماوتسي تونغ آخر، فتقرر في التنظيم الجديد أن يكون القرار السياسي توافقياً بين أعضاء قيادة الحزب، وألّا يسمح لتيار أو شلة بالاحتفاظ بنفوذ قوي على حساب قوى أخرى في الحزب.
أوصى ثالثاً، بأن تمشي الصين في مساراتها الخارجية وعلاقاتها الدولية بتؤدة ونعومة، بمعنى آخر تتفادي الصين الظهور بمظهر العنف أو التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو التفاخر بالقوة العسكرية، وذلك حتى يكتمل بناء الدولة الحديثة، وبالفعل اكتمل بناء الدولة الحديثة بفضل التزام خلفاء الرئيس دنغ بوصاياه، نما الاقتصاد بنسب مذهلة وتحقق الاستقرار السياسي والاجتماعي. حدث هذا رغم التطورات الاقتصادية الهائلة والتوترات الاجتماعية الناتجة عن الهجرات الداخلية، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
فجأة، أفاق العالم ليجد نفسه أمام بوادر تجربة فريدة في التاريخ، وجد نفسه شاهداً على محاولة إقامة امبراطورية في عصر «لا إمبراطوري» وهو العصر الذي دشنه انسحاب بريطانيا من شرق السويس وانسحاب فرنسا من الهند الصينية، نحن جميعاً شهود على تجربة فريدة، تجربة إمبراطورية تنهض بها دولة من العالم النامي. هذا في حد ذاته تطور مذهل ومع ذلك يبقى الأمر المثير للغاية؛ حسب ما لفتت نظري إليه الدكتورة نهى المكاوي أستاذة العلاقات الدولية، هو أن هذه الإمبراطورية ستكون الأولى التي تقوم من مركز كثيف السكان ومقدر أو مخطط لها، أن تهيمن على هوامش أقل كثافة سكانية على عكس التجارب الإمبراطورية السابقة كافة.
كانت الإمبراطورية التقليدية تقوم من مركز صغير المساحة قليل السكان، هكذا قامت إمبراطوريات هولندا والبرتغال وإسبانيا وبريطانيا وبلجيكا بشعوب صغيرة هيمنت على أراضٍ شاسعة وشعوب كبيرة لسنوات بل لقرون عديدة.
من حسن حظنا، كمراقبين أو دارسين للعلاقات الدولية، أن نكون شهوداً على خطوات قيام أول إمبراطورية في التاريخ الحديث، أي في عصر الحقوق السياسية والثورات المدنية والاحتجاجات الاجتماعية، عصر الرفض العنيد والمتجدد للظلم والهيمنة الخارجية واللامساواة. من حسن حظنا أيضاً أن نكون شهوداً على شعب المليار وثلاثمئة مليون نسمة، يستعد لصياغة علاقة إمبراطورية جديدة مع شعوب المليون نسمة، والخمسة ملايين والمئة مليون، وأن نكون شهوداً في السنوات القليلة المقبلة على توقيع حزم من الاتفاقات التي ستعقدها الصين لتدفع بها عن نفسها تهمة «الاستعمار الجديد»، خاصة أننا رأينا بالفعل اتفاقات تسمح للصين باستغلال منابع نفط ومناجم وموانئ لسنوات وعقود عديدة، والحصول بموجبها على امتيازات استثنائية، والتمتع، وهو الأمر شديد الخطورة، بحق «الاستيطان المؤقت»، لأعداد غفيرة من العمال والموظفين الصينيين في مواقع الاستثمارات الصينية في الخارج، متعة للمتخصص في الدبلوماسيات الحديثة والعلاقات الدولية لا تعادلها متعة أخرى، مراقبة الصين وهي تخطو خطواتها الإمبراطورية، الواحدة بعد الأخرى.
عصر مختلف يجب أن تتهيأ له حكوماتنا، وهي تتفاوض مع حكومة بكين على استثمارات طويلة الأمد في اتفاقيات جديدة، تتهيأ له بأن تقرأ بإمعان كل سطر، وكل كلمة في هذه الاتفاقيات، وتتوقف بين الفقرة والفقرة لتفكر، قبل أن توقع.

جميل مطر

صحيفة الخليج