بينما تتجه الأنظار إلى الملفات الأمنية بالمنطقة العربية، تطفو على السطح ملفات أخرى قد تكون أكثر أهمية بل إن التغاضي عنها قد يعمق الإشكالات القائمة. ولعل ملف المصالحة الوطنية الذي يأخذ حيزا من الاهتمام حينا ويختفي أحيانا يعد أحد أبرز هذه المسائل التي ظلت مبتورة في جميع الدول العربية، باستثناء تونس التي روجت للعالم أن مسار المصالحة الوطنية سيأخذ نهجه الطبيعي على غرار الدول الديمقراطية. ولكن يبدو أن هذا المشروع يعيش مخاضا صعبا قد يحيد به عن طريقه.
يشتد الجدل هذه الفترة حول قانون المصالحة الاقتصادية الذي طرحه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي للمصادقة عليه من طرف مجلس النواب. ففي الوقت الذي يصر السبسي وحزبه ودائرته الموسعة على جدوى تمرير هذا القانون، اتفقت أغلب مكونات المعارضة التونسية حول رفضه. وانطلقت في تنظيم حملات سبقت عودة البرلمانيين من عطلهم السنوية بهدف الضغط على أصحاب المشروع لسحبه والتراجع عنه. وإن كانت كل المؤشرات تقر بعبثية هذه المحاولات لعدة اعتبارات أهمها أن المعارضة تشكل أقلية تمثيلية داخل قبة المجلس، وهذا ما يعيه الباجي قائد السبسي جيدا ويحمله على المراهنة على دعم شركائه في الحكم أصحاب الأغلبية البرلمانية ولا سيما حركة النهضة الإسلامية. هذا دون أن ننسى صعوبة التوجه إلى خيار النزول إلى الشارع وإشراك الشعب في التصدي إلى هذا القانون في هذا التوقيت، بسبب حالة الطوارئ التي تخول للسلطات الرسمية قمعها.
ويرى المراقبون أن بعض المتابعين لهذا الملف يستنكرون موقف المعارضة تحت تعلة أن المصالحة هي أبرز خطوات العدالة الانتقالية التي ما تزال مطلب التونسيين جميعا. لكن يغيب عنهم أن مشروع الرئيس التونسي والذي ينص على العفو عن رجال الأعمال في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، بهدف دفعهم للاستثمار من جديد، وإعادة إدماجهم في الدورة الاقتصادية، لن يصب في إطار المسار الطبيعي لمشروع العدالة الانتقالية في تونس، وإنما سيصب في دائرة خيارات الباجي قائد السبسي وحلفائه. فمن جهة يسعى السبسي جاهدا تحت وطأة ازدياد وتيرة الحرب على الإرهاب، والضغوط التي تمارس على تونس من قبل المؤسسات الدولية المانحة والدول الغربية والمصاعب الاقتصادية في الداخل، إلى لململة الوضع بين مكونات المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بشكل يطوي الملفات الكبرى التي ما تزال محل خلاف، وبشكل يبدو نظريا حافزا لتحريك الوضعية الكارثية للاقتصاد في البلاد.
وفي انتظار المصادقة على هذا القانون الذي سيمر في نهاية المطاف، يكون مشروع المصالحة الوطنية في تونس قد سقط في مستنقع الحسابات السياسية الضيقة وضل الطريق إلى مساره الصحيح. وسيسقط معه حلم بناء الدولة الديمقراطية التعددية التي تنتهج خيارا اقتصاديا واجتماعيا جديدا يجسد القطيعة مع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية المنحرفة في عهد الرئيس زين العابدين بن علي التي أدت إلى إثراء أقلية من العائلات المرتبطة بالسلطة وكبار رجال الأعمال على حساب إفقار معظم طبقات الشعب التونسي بما فيها الطبقة المتوسطة التي تعد أكبر طبقة اجتماعية موجودة في تونس.
ليبيا أمل في العودة
وإذا كانت الحسابات السياسية تلعب دورا كبيرا في حسم مشروع المصالحة الوطنية في تونس، فإن هذا المشروع يتخبط تحت وزر الخلافات العميقة المتفاقمة بين مكونات المجتمع الليبي بما في ذلك المشهد السياسي والأمني. ورغم الجهود الحثيثة والمفاوضات المتتالية في الداخل والخارج لتقريب وجهات النظر حول مشروع يجمعها، إلا أن التعنت ما يزال يحكم الفرقاء ويعيق مباشرة العمل على طرح جدي يضمن مصالحة حقيقية وعملية بعد أربع سنوات من الاختلاف كان ثمنها هدر الأمن العام وانتشار الفوضى واكتساح الإرهابيين لمساحات واسعة من البلاد.
ويقر المحللون أن الليبيين اندفعوا تحت وطأة الحماسة الثورية التي تلت إسقاط معمر القذافي إلى تجسيد مبدأ تصفية كل من له صلة بعيدة أو قريبة بالقذافي ومحيطه العائلي والسياسي، وهو ما أسقطهم في خانة العنف والقتل. وتطور هذا المشهد حتى بلغ مستويات قصوى جعلت العلاقة بين الليبيين تصب في دائرة العدائية المفرطة، وهو ما عرقل قيام مشروع المصالحة الوطنية إلى غاية اليوم. ورغم تعدد لجان المصالحة وتنوعها وكثرة مجالس الحكماء والشورى ورغم تعدد المؤتمرات المنعقدة تحت شعار المصالحة الوطنية، إلا أن معظم هذه المجهودات لم ترق إلى مستوى الحدث ولم تتوصل إلى إيجاد الحلول ومعالجة القضايا المختلف حولها.
كما أن انقسام المشهد السياسي إلى حكومة شرعية تتخذ لها مقرا في أقصى شرق البلاد، وأخرى ترفض القبول بنتائج الانتخابات وتنصب نفسها بالقوة كحكومة موازية في العاصمة طرابلس، زاد من حدة الخلافات. وإن كان المتابعون للمشهد الليبي يرون أن الليبيين وبالنظر إلى ما آل إليه الوضع الأمني لا سيما بعد العمليات الإجرامية التي أقدم عليها تنظيم الدولة الإسلامية، بدأوا في التغاضي عن بعض النقاط الخلافية الكبرى التي فرقتهم بالأمس على غرار التقسيمات بناء على الولاءات للقذافي وعائلته. وتحسسوا أهمية التقائهم حول مشروع يجمعهم، وطبعا وحدها المصالحة الوطنية الكفيلة بلم شتات الفرقاء والخروج من خندق الموت الذي ينصبه الليبيون لبعضهم البعض، هذا علاوة عن الجماعات الإرهابية التي تستثمر هذا الوضع لمزيد بسط نفوذها. وبهذا يمكن الترجيح بأن مشروع المصالحة الليبية الذي تقول كل التقارير أنه وصل إلى طريق مسدود، قد ينفض الغبار عنه من جديد.
العراق الطائفية تغرق البلاد
العراق هو الآخر لم يصل بعد إلى بلورة مشروع المصالحة الوطنية رغم مرور 12 سنة على سقوط صدام حسين ودخول البلاد في مستنقع العنف. حيث انساقت السلطات بإيعاز من الولايات المتحدة الأميركية أولا إلى مسار اجتثاث حزب البعث، حيث تم بعث الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث بقانون صادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة برئاسة الحاكم الأميركي بول بريمر بتاريخ 16 أبريل 2003 لاجتثاث هيكل حزب البعث في العراق وإزالة قياداته من مواقع السلطة. وكانت وظيفتها أساسا العمل على توفير معلومات تكشف عن هوية البعثيين من ذوي درجات عضوية محددة ليتم فصلهم من مرافق الدولة. فتم وفقا لذلك حل الجيش وطرد آلاف المدرسين والموظفين من وظائفهم وحرمان كل من يعتقد أنه كان عضوا في حزب البعث من تولي الوظائف الحكومية.
واستغل هذا الهيكل موقعه ليسقط في العديد من التجاوزات التي تعدت مسألة رقابة أتباع حزب البعث وسقطت في مطب الطائفية، حيث تؤكد أغلب التقارير أن الهيئة عملت على استغلال القانون لصالح العراقيين الشيعة فيما ظلم الكثير من السنة في بلاد الرافدين تحت غطاء الانتماء لحزب البعث. وتدريجيا تحول هذا المشهد إلى أعلى هرم السلطة التي كرست الطائفية وغذتها لا سيما خلال فترة حكم نوري المالكي، وهو ما أودى بالبلاد في منحدر حروب راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء. ووسط كل ذلك كانت المصالحة الوطنية العنوان الكبير لخطب للسياسيين في العراق. ولكن ورغم الأموال الطائلة التي خصصت لهذا المشروع في فترة حكم المالكي، ورغم بعث هيئة عليا للمصالحة ولجان تنفيذ ومتابعة للمشروع في كل مناطق العراق وتعيين مستشار لرئيس الوزراء خاص بالمصالحة الوطنية إلا أنها باءت بالفشل.
ويعتبر المحللون أن وجهة مشروع المصالحة الوطنية في العراق ستظل مسدودة ما دام الماسكون بزمام الشأن والقرار السياسي لم يصلوا بعد إلى الوعي إلى خطورة أمرين، الأولى انسياقهم وراء التيارات الطائفية داخل العملية السياسية عبر ما يدرجوه من قرارات، وخارجها بتكوينهم الميليشيات المسلحة التي تضرب أمن البلاد وترهب الشعب.
لبنان.. الدولة المهترئة ميليشيويا
المصالحة في نسختها اللبنانية، لها عوائقها التي تنطلق من اعتبارات التاريخ والسياسة والطائفة. إذ أن الدولة، تعرضت إلى مسار طويل من التعدي من قبل قوى سياسية سعت، وتسعى، إلى اختطاف ومصادرة العديد من مجالات نفوذ الدولة. الخلافات السياسية تدارُ وفق هذا المعطى والمعيار، أي أن القوى السياسية اللبنانية، ذات الطابع الميليشياوي العسكري المسلح والمددججة في أغلبها بأدبيات دينية طائفية ومذهبية، لا تتساوى مع غيرها من الأحزاب السياسية التي تنحو منحى العمل المدني السلمي على غرار كل التجارب السياسية في العالم.
الأحداث الأخيرة في لبنان، التي بدأت من الاحتجاج على تراكم النفايات، ووصلت إلى حد المطالبة بإسقاط الحكومة من قبل بعض القوى، والدعوة إلى إسقاط النظام من قبل قوى أخرى، كانت الشجرة التي تخفي غابة الأزمات السياسية العميقة: الاستحقاق الرئاسي المعطل منذ أكثر من عام بفعل حسابات سياسية تدين بالولاء للخارج أكثر من انضباطها لمصلحة الوطن الصغير، هو المدخل الحقيقي للحديث عن مصالحة سياسية لبنانية. هنا يحضر، حزب الله، وشركاؤه من قوى لبنانية وإقليمية، ليمثل، بكل ما يرمز إليه من روافد عسكرية وسياسية وتنظيمية، حجر العثرة الرئيسية أمام إنجاز الاستحقاق الرئاسي الذي يعني احترام مؤسسات الدولة وتفادي الشغور.
هذا الحالة اللبنانية الموسومة بالعطالة، والتي تترجم عبر مظاهر عديدة، من غياب رئيس للدولة وصولا إلى تراكم النفايات وغيرهما من الشواهد الدالة على عمق الأزمة، تحيل أيضا إلى أن المصالحة الوطنية تقتضي -أولا- النظر إلى الوطن بوصفه مجالا مشتركا يقوم على المواطنة لا على الانتماء المذهبي أو الديني، وتحيل كذلك إلى أن النظر إلى غير الوطن بقدر ما يبدد كل إمكانيات المشاركة والمصالحة، فإنه يحول الوطن ذاته إلى كانتونات صغيرة منزوية سياسيا واجتماعيا، وهو ما من شأنه أن يعمق الأزمة ويؤبدها.
نخلصُ إلى أن إرساء المصالحة الوطنية بما تعنيه من إعلاء قيمة الدولة، وبما تحيل إليه من تجاوز للطائفية والمذهبية والتوتر الديني وغيرها من التعبيرات التي تنتمي إلى زمن ما قبل الدولة، يعاني أساسا من عوائق وكوابح هي نفسها التي تسعى مشاريع المصالحة إلى تجاوزها. هي مفارقة سياسية عربية، أن تصطدم مشاريع بناء وطن حديث بمكبلات كانت تسعى إلى إلغائها.
صحيفة العرب اللندنية