هي كارثة أخلاقية وفكرية وسياسية أن يتواصل تورط البعض في بلاد العرب في التبرير غير المباشر لجرائم الإرهابيين التي أسالت مؤخرا دماء الأبرياء في فرنسا والنمسا. رجال دين وسياسيون، وفي ركبهم كتاب رأي يرفعون إما رايات التقدمية والعلمانية أو شعارات الديمقراطية، زعموا أن جرائم قطع الرؤوس والذبح والطعن التي شهدتها باريس ونيس وليون ما كانت لتحدث لولا الاعتداء على مشاعر المسلمين بنشر رسوم مسيئة وبحديث الرئيس الفرنسي ماكرون عن خطر الإسلام الراديكالي والانفصالي ولولا المعايير القانونية المزدوجة في الجمهورية الفرنسية التي تعاقب قانونا العداء للسامية ولا تعاقب ازدراء المعتقدات الدينية الإسلامية. زعموا أيضا أن الجرائم الإرهابية ما كانت لتحدث لولا الماضي الاستعماري لفرنسا الذي جاء إلى المدن الفرنسية بمسلمين من المستعمرات السابقة في شمال وغرب إفريقيا وعرض أجيالهم المتتابعة للتهميش الاقتصادي والاجتماعي ولأزمات الهوية ورتب من ثم نزوع أقلية بينهم إلى التطرف والعنف والإرهاب كأداة أخيرة لكي يستمع الأخرون في المجتمع لأنينهم ويتعاملوا بجدية مع أزماتهم.
كلمات تدعي الحياد فيما خص جرائم مفزعة وظواهر دامية وتزعم العمق الفكري الملم بخلفياتها الفعلية والبحث العلمي المنضبط عن أسبابها الحقيقية، بينما هي ليست سوى استدعاء لأفكار سطحية وأنصاف حقائق لتبرير جرائم لا تقبل غير الإدانة وللخلط بين أمور لا تحتمل سوى الفصل التام ولتمرير أساليب يجافيها الصواب بشأن مواجهة التطرف والعنف والإرهاب المحمولين على مقولات دينية. كلمات دلل على تهافتها الإرهاب الذي أدمى قبل أيام قليلة العاصمة النمساوية فيينا واغتال أبرياء أمام المعبد اليهودي الواقع في وسط المدينة.
فالفضاء العام في النمسا لم يشهد اعتداءات على مشاعر المواطنين والمقيمين المسلمين بنشر رسوم مسيئة، ولم تتسم الحياة السياسية في هذا البلد الأوروبي الصغير بصراعات محمومة حول حرية التعبير عن الرأي والحدود الفاصلة بينها وبين ازدراء المعتقدات الدينية.تضمن القوانين النمساوية كافة أشكال التعبير الحر عن الرأي شريطة الالتزام بديمقراطية التنظيم المجتمعي والسياسي (توظف في هذا السياق عبارة «النظام الديمقراطي الحر») وتعترف رسميا بالمسيحية واليهودية والإسلام كديانات للمواطنين والمقيمين وتصون الحريات الدينية دون تمييز وهو ما يعني علمانية الدولة والمؤسسات العامة والخاصة وحيادها الكامل إزاء التنوع الديني والامتناع عن الزج بالدين إلى الحياة السياسية التي تظل أيضا علمانية الطابع. تجرم القوانين النمساوية، بالتبعية، الترويج للأفكار المعادية للديمقراطية ومن بينها من جهة مقولات الكراهية إزاء المواطنين اليهود والعداء للسامية ومن جهة أخرى مقولات التطرف الديني.
وإذا كان تجريم العداء للسامية يرتبط في الخبرة النمساوية بسنوات قتل وتعقب النازية لليهود بين 1938 و1945 وبالحضور المستمر لحركات عنصرية يمينية في الفضاء العام والحياة السياسية، فإن تجريم التطرف الديني يتعلق بما تشهده النمسا وغيرها من البلدان الأوروبية طوال السنوات الماضية من تصاعد نسبي لخطر الجماعات الراديكالية بين المواطنين والمقيمين المسلمين (تصنف هيئة حماية الدستور النمساوية، وهي جهاز أمني في المقام الأول، الحركات العنصرية اليمينية والراديكالية الإسلاموية كمصدري التهديد المباشر لديمقراطية التنظيم المجتمعي والسياسي).
لم يطرق التطرف الديني أبواب النمسا بسبب الماضي الاستعماري، فالبلد الصغير الذي كان يوما (مع المجريين) يقود إمبراطورية متنوعة الأعراق والديانات واللغات في وسط وشرق وجنوب أوروبا (الإمبراطورية النمساوية ـ المجرية) وخضعت له لفترات مناطق سكنتها أغلبيات مسلمة (البلقان) لم يوطن خلال الحقبة الإمبراطورية جاليات مسلمة بأعداد تذكر.
عندما انهارت الإمبراطورية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) صارت النمسا جمهورية صغيرة ومسالمة في وسط أوروبا، وعندما تحررت من حكم النازيين (1945) صارت ديمقراطية برلمانية تتسم باقتصاد السوق الاجتماعي في الداخل والسياسات المحايدة في الخارج (وقفت النمسا على الحياد بين المعسكرين الغربي والشرقي في أوروبا إلى أن انهار الأخير في 1989).
أدانت مجالس المسلمين الأوروبيين حملات مقاطعة المنتجات الفرنسية وخطابات التهجم على السياسيين في فرنسا والنمسا لكون الأولى تعاقب شعبويا حيث لا يجوز العقاب ولكون الثانية تستعدي حكومات ديمقراطية ترى عن حق في الإرهاب والتطرف الديني أخطارا محدقة بالبلدان الأوروبية
في النصف الثاني من القرن العشرين، جاءت إلى النمسا التي حققت تقدما اقتصاديا سريعا وارتفعت بها معدلات الإنتاج الصناعي أيدي عاملة مسلمة من تركيا والبلقان مثلما قدمتها عمالة غير مسلمة من مناطق أخرى في الشرق والجنوب الأوروبي.
تشابهت الأوضاع النمساوية هنا مع الحالة الألمانية، وتدريجيا تحول وجود «العمال الضيوف» إلى عائلات وأجيال متعاقبة وجاليات بعضها يتمايز عرقيا عن مجتمع الأغلبية كذوي الأصول الصربية والكرواتية من المسيحيين وبعضها يتمايز عرقيا ودينيا عن مجتمع الأغلبية كالجاليات التركية والألبانية والبوسنية المسلمة. تشابهت الأوضاع النمساوية أيضا مع الحالة الألمانية فيما خص حرص الحكومات المتعاقبة على حماية الجاليات المتمايزة عرقيا ودينيا من التهميش الاقتصادي والاجتماعي والحيلولة دون عزلتهم جغرافيا في أحياء مغلقة عليهم عبر تطبيق سياسات متتالية للدمج لغة وثقافة ودراسة وعملا. بالقطع، لم يخل الأمر من توترات مجتمعية سببها الفقر والبطالة وأزمات الهوية لدى أقلية من المنتمين للجاليات المتمايزة عرقيا ودينيا هنا ومن صعود للتعاطف مع اليمين العنصري لدى أقلية من المواطنين في فترات الركود الاقتصادي هناك. غير أن المدن النمساوية لم تشهد تكونا لأحزمة فقر وبطالة وتطرف وراديكالية الجاليات المسلمة تحيط بالمدن الكبيرة كما في فرنسا، ولم يتكرر لا في الفضاء العام ولا في الحياة السياسية الصراع حول مقتضيات صون حرية التعبير عن الرأي وشروط احترام المعتقدات الدينية. لم يحدث شيء من ذلك، لكن تنامي التطرف الديني والراديكالية بين أقلية منتمية للجاليات المسلمة وقع. لم يحدث شيء من ذلك، لكن الجرائم الإرهابية كجريمة وسط فيينا التي ارتكبها مواطن له أصول ألبانية وقعت.
هي، إذا، تباينات جوهرية تلك الحاضرة فيما خص التفاصيل التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية لحياة الجاليات المسلمة بين فرنسا والنمسا، تباينات تدحض كافة المقولات التي سيقت للتبرير غير المباشر للجرائم التي أسالت دماء الأبرياء في البلدين. وبينما يتورط بعض، وليس كل، رجال الدين والسياسيين وكتاب مقالات الرأي في بلاد العرب في التعاطي التبريري مع جرائم إرهابية لا تقبل سوى الإدانة وظواهر دامية كالتطرف الديني لا تحتمل غير المواجهة وفي اجتزاء تصريحات سياسيين أوروبيين لوصمهم بالعداء للإسلام وإطلاق حملات غير رشيدة لمقاطعة منتجات بلادهم؛ تتعامل الجاليات المسلمة في أوروبا مع الأوضاع الراهنة على نحو مسؤول أخلاقيا وفكريا وسياسيا.
أدانت مجالس المسلمين الأوروبيين الجرائم الإرهابية دون لكن، دون خلط بين طلبهم المشروع إنسانيا ومجتمعيا أن تحترم معتقداتهم ورموزهم الدينية وبين رفض سفك الدماء الذي لا يبرره شيء بين الأرض والسماء. أدانت مجالس المسلمين الأوروبيين حملات مقاطعة المنتجات الفرنسية وخطابات التهجم على السياسيين في فرنسا والنمسا لكون الأولى تعاقب شعبويا حيث لا يجوز العقاب ولكون الثانية تستعدي حكومات ديمقراطية ترى عن حق في الإرهاب والتطرف الديني شأنهما شأن العداء للسامية والعنصرية أخطارا محدقة بالبلدان الأوروبية. قبل أيام، وصفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهي يستحيل أن تتهم بازدراء الإسلام أو بالعداء للجاليات المسلمة، «الإرهاب الإسلاموي» بكونه يمثل الخطر الأكبر على الديمقراطية في أوروبا.
أدانت مجالس المسلمين الأوروبيين حملات المقاطعة وخطابات التهجم لأن الانزلاق إلى الأولى والترويج للثانية لهما أن يصما أفراد الجاليات المسلمة بعدم قبول الرأي الآخر وعدم الاعتداد بحرية التعبير وعلى الحريتين يعول المسلمون في فرنسا والنمسا وغيرهما من البلدان الأوروبية للانتصار لاحترام معتقداتهم ورموزهم الدينية وللدفاع عن حقهم في الممارسة الحرة لشعائرهم الدينية وفي رفع وتائر دمجهم في إطار التنظيم الديمقراطي والعلماني للمجتمع والسياسة.
عمرو حمزاوي
القدس العربي