بعد تغطيّة حماسيّة من أغلب التلفزيونات على امتداد الكوكب، تهجّد صوت وولف بليتزر – مذيع «سي أن أن» الذي قاد تغطيتها الانتخابيّة لهذا العام – قبل دقائق من منتصف النهار ليقول: «بعد أربعة أيّام طويلة ومتوترة، ها قد وصلنا إلى اللّحظة التّاريخيّة الحاسمة لهذه الانتخابات. في إمكاننا الآن تحديد الفائز في السباق الرئاسي».
ثم بعد نبضة موسيقيّة خاطفة قبل أن تعلن الشبكة أن المرشّح جوزيف آر بايدن جونيور قد كسب أصوات ولاية بنسلفانيا.
كان الفوز في بنسلفانيا تحديداً بالنسبة لدونالد ترامب – الرئيس الأمريكي ومرشّح الحزب الجمهوري – آخر أمل له في البقاء في السباق الرئاسيّ، بعدما بدا أن بايدن قد أصبح في حاجة إلى أصوات قليلة في المجمّع الانتخابيّ كي يتوّج على رأس الإمبراطوريّة الأمريكيّة، وقائماً بأعمال رأس شرطيّ العالم.
بعد إعلان بليتزر في أقل من أربع دقائق كانت بقيّة القنوات التلفزيونيّة الأمريكيّة، ووكالات الأنباء العالميّة – وبالتبعيّة التلفزيونات العربيّة – تردد خبر «سي أن أن» بما فيها أيضاً قناة «فوكس نيوز» اليمينيّة المؤيّدة لترامب.
ومع أن فوز بايدن لم يكن مفاجئاً، وظهر تقدّمه في شكل ملحوظ منذ بعض الوقت، إلا أن الإعلام الجماهيري الأمريكيّ، الذي يهيمن عليه التيار الليبرالي المعادي لترامب بدا في نشوة ظاهرة، وبدأ مذيعو البرامج السياسيّة في التساؤل عن اللّقب الرسمي، الذي سيمنح لزوج كامالا هاريس – الفائزة بمنصب نائبة الرئيس – كما التشفّي بمصير طاقم ترامب – من جاريد كوشنر إلى مدير وكالة حماية البيئة أندرو ويلر – والذي سيجد نفسه قريباً على قارعة الطريق، فيما تمّ تقديم الرئيس المهزوم، رغم شروع فريقه في تقديم اعتراضات قانونية لدى المحاكم بشأن مزاعم تزوير في دوائر حسمت بفروقات ضئيلة.
وكأنّه شاخ فجأة ولم يعد ذاك (الغول) الصاخب، وأراح الجميع بذهابه للانعزال ولعب الغولف.
الدّعوة إلى الوحدة ورأب الصدع: إعلام التمنيّات
بعدها، نقلت القنوات خطابات النّصر، التي ألقاها بايدن وهاريس من ديلوير، وأشار فيها الأوّل إلى أنّه رئيس لكل الأمريكيين كيفما صوتوا، وبدا أن ثيمة نهاية الأسبوع التلفزيونيّة ستكون لبيع رأب الصّدع الهائل، والتّبشير بعودة الإجماع للشعب بعد إقصاء قطب التطرّف المثير للانقسام.
وهكذا استدعت الشاشات عدداً من الجُمهوريين الذين يعادون ترامب بمن فيهم جون كاسيتش، الذي أيد بايدن علناً، والسيناتور ميت رومني، الذي لم يصوّت لأي من المرشحين، وحشدت صفوفاً من الضيوف المحللين والنّقاد لنصح بايدن بضرورة موضعة حكمه في مربّع «التقدميّة» و«بناء الوحدة».
وقال أحد المقدّمين – تشاك تود من شبكة «أن بي سي»: «إن أمريكا اختارت بايدن لشفاء الأمة» «لهذا السبب شارك في السّباق، ولهذا السّبب فاز».
وربّما كانت تلك نصيحة عادلة تُوجّه لبايدن، لكن السذاجة، التي تُقدّم بها الأمور للأمريكيين – والعالم – تنتمي إلى التفكير الرغائبيّ أكثر منها إلى عالم الواقع وتتجاهل في إهمال متعمّد تعقيدات كبرى على مستويين:
أوّلها، التعامل مع بايدن على أنه عودة مرحب بها إلى «الحياة الطبيعية» مما سيسمح له بالتهرب من التدقيق في السياسات الموضوعية التي سيتبناها طالما أن لهجته تبقى دبلوماسيّة وتجميعية مقارنة بسابقه، العنصري والمتطرّف دائماً وفق الصورة التي تطرحها القنوات، رغم أن صعود ترامب إلى قمّة هرم السلطة التنفيذيّة الأمريكيّ كان نتيجة مباشرة وحتميّة لفشل ما تصفه القنوات بـ«الحياة الطبيعية» وما هو في الحقيقة سوى العيش في ظل النموذج الاقتصادي والاجتماعي للنيوليبراليّة، بانعدام العدالة فيه على مستوى تقاسم الثروة والدّخل، وإفلاسه الفضائحيّ، الذي كان انفجر أزمة ماليّة عالميّة عام 2008، وأطلق من جراء ذلك موجة غضب شعبيّ عريضة وغير مسبوقة – ليس في الولايات المتحدة وحدها فحسب – بل وفي الاقتصادات الرأسماليّة الكبرى عالية التشبيك بالاقتصاد الأمريكيّ.
وقد كان من تلك الموجة أن دفعت بسياسيين يمينيين متطرفين إلى مواقع السلطة والتأثير في غير ما بلد، وأيقظت نوازع الفاشيّة التي ظنّ العالم أنها ذهبت دون عودة.
وثانيها، التظاهر بأن المرحلة الترامبيّة وكأنها انتهت إلى غير رجعة أو أنها بصدد التلاشي، ومن ثّم تحميل بايدن مسؤولية تبني خطاب وحدويّ وإلقاء اللوم عليه إذا لم تتحقق تلك الوحدة المزعومة. فسوى النزعة المؤدلجة الشديدة البعد عن الواقع عبر شخصنة المسائل – الوحدة الداخليّة للشعوب لم تكن أبداً في هيئة أو خطاب رجل واحد – فإن الفكرة القائلة إننا نستطيع جميعاً – الأمريكيين والعالم من ورائهم – تجاوز ترامب بوصفه حالة تاريخيّة خلال أيّام هي فكرة خيال محض، وخداع للجمهور غير المتخصص ترتكبه تلك القنوات المنتشية بتغييب عدّوها الأثير، وتجاهل للخلل البنيوي في قلب النظام السياسيّ الأمريكي، والذي يفرغ الديمقراطيّة من معناها ويحوّلها إلى كرنفال دوري يضمن تحسناً في الدورة الاقتصاديّة لبعض القطاعات من خلال الإنفاق الهائل على الحملات الانتخابية (14 مليار دولار في هذه الدّورة).
الترامبيّة باقيّة في المدى المنظور والاستقطاب كذلك
هناك بالفعل حديث حيّ حول خطط ترامب على المدى القريب. فبغير الدعاوى القانونيّة العديدة التي تحدث رودي جولياني، محامي الرئيس عنها مطلِقاً اتهامات بتزوير واسع في بعض الولايات استهدف موكله – وهذه من شأنها أن تستغرق وقتاً وتلقي بظلال من الشكّ في مصداقيّة انتصار بايدن وشرعيته لتولي المنصب. كما وأعيد التّداول في فكرة «تلفزيون ترامب» مجدداً – رغم صعوبات فنيّة الطابع قد تعيق التنفيذ – أو أقلّه عودة الرّجل من خلال قناة تلفزيونيّة قائمة مثل «فوكس نيوز» يحوّلها إلى منبر يكرّس مناخ الاستقطاب بين الأمريكيين، ويبقى التنين محملقاً في وجوههم كلّ ليلة أو نهاية أسبوع عبر شاشات التلفزيون في منازلهم.
لكن الأهم من كل ذلك هو ما قد يحصل على المدى المتوسّط. فترامب حصل ما يزيد عن أصوات 70 مليون أمريكي بزيادة ستة ملايين صوت عن عدد ناخبيه في الـ 2016 وهؤلاء يمثّلون حوالي 49 في المئة ممن أدلوا بأصواتهم، بمن فيهم انتخبه 95 في المئة من الجمهوريين وأكثر من ثلث المنحدرين من أصول اسبانيّة – لاتينيّة، مما يعني أنه وسّع دائرة دعمه – بدل أن تتقلّص – لتكون نصف الجمهور الأمريكي، بعد أربع سنوات من الحملات السياسيّة والإعلاميّة المغرضة، وفشله الذريع في إدارة المواجهة مع وباء كوفيد – 19 (تجاوز عدد الإصابات إلى يوم الانتخابات 10 ملايين وعدد الوفيّات ربع مليون، فيما تزيد الحالات في معدّل 100 ألف حالة يوميّاً).
وهذا كلّه يعني، حسب المنطق البسيط، أنّ لهذا الرّجل حتى وإن خرج من البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير المقبل قاعدة شعبيّة هائلة تمنحه القدرة للعب دور فاعل في السياسة الأمريكيّة لم يلعبه أيّ من الرؤساء الآخرين، الذين خرجوا من السلطة بعد فترة رئاسيّة واحدة، والذي يعني ببساطة فتح الباب على مصراعيه لعودته مرشحاً رئيسياً بعد أربع سنوات (2024) أو أقلّه ليلعب دور كابتن المعارضة الجمهوريّة ضد السلطة الديمقراطيّة، وتصعيد مرشحين على قياسه في الدّورات الإنتخابيّة المقبلة للرئاسة كما للكونغرس، ناهيك عن لعبه دور النبيّ الرمز المظلوم للملايين الذين صوتوا له ولن يجدوا بايدن وإدارته الديمقراطيّة قادرين على تحقيق أي تغيير جذري في المظال – حقيقيّة كانت أو متخيّلة – التي دفعتهم لتصعيده رئيساً عام 2016 وإعادة انتخابه ثانية في 2020.
وهم «السلطة الرابعة»: رابحون كثر وخاسر وحيد
ماكينة الإعلام الأمريكيّ الضخمة أعادت تذكيرنا مجدداً باستقالتها من دورها المفترض في النظام الديمقراطيّ، لتلعب – بدل سلطة رابعة – طرفاً منحازاً لجهة دون أخرى، ومرّوجةً للأيديولوجيا دون الحقائق. ولذا فإن هناك خاسر واحد في كل هذا الصراع السياسي، الإعلامي الممسرح، وهو أكثريّة الشعب الأمريكيّ التي تناضل لكسب قوتها. فيما غالبيّة الإعلام العربي وكأنّه شرب حليب الانحياز من أمٍّ غربيّة، ولذا جاء على صورتها، انحياز تامّ وفاجر وعلى الهواء مباشرة.
ندى حطيط
القدس العربي