الولايات المتحدة لا يمكن أن تغفل عن الثورات العسكرية القادمة

الولايات المتحدة لا يمكن أن تغفل عن الثورات العسكرية القادمة

تربّعت الولايات المتحدة على عرش العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية ومنذ ذلك الحين لم تتأثر إلى حد كبير بكل المتغيّرات التي طرأت على العالم وظلت هي صاحبة القيادة الأولى سياسيا واقتصاديا وعسكريا. ومع ذلك فإن نبوءة بعض المؤرّخين القدامى تحققت اليوم حول عدم استفادة الرؤساء الأميركيين من دروس حروب الماضي، لبناء أسس مستقبلية قوية خاصة مع التقدّم المستمر في ما يتعلق بالمجال العسكري، حيث يفرض ذلك تطوير البرامج الثورية التي تشمل تنوّعا في كل من التكنولوجيا الرقمية والبشرية لوضع حد للحروب التقليدية.

واشنطن- أثبت أسلوب الولايات المتحدة القائم على تدمير قوة العدو فاعليته خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحتى في الحروب التي خاضتها بعد ذلك، لكن أول قوة في العالم يبدو أنها ليست جاهزة اليوم للتصدي إلى الحروب غير التقليدية.

ويعتقد مؤرخون وباحثون أن النهج الآمن الذي كانت تتّبعه الولايات المتحدة في حروبها من حيث استخدام القوة العسكرية المدمرة لم يعد ملائما في ظل وجود تهديدات، وأسلوب حروب غير تقليدية يتبعه الكثير من خصوم واشنطن مع استخدامهم للأدوات التكنولوجية في استراتيجيتهم العسكرية.

ويقول زاكري تايسون براون، وهو زميل أمني في مشروع ترومان للأمن القومي في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، إن الجيوش في جميع أنحاء العالم تقوم بتجربة التقنيات الجديدة ومناقشة القدرات التي يجب الاستثمار فيها، وأيّها التي عليها تركها تماما كما فعلت الإمبراطوريات الأوروبية قبل قرن من الزمن.

وأشار براون، وهو خريج جامعة الاستخبارات الوطنية الأميركية، إلى أنه كما كان الحال آنذاك يكافح القادة السياسيون لفهم البيئات الاجتماعية والتكنولوجية والجيوسياسية المتغيرة بسرعة ومثل أسلافهم فإن “قادتنا يخاطرون بالمأساة من خلال التقليل من ذلك، وسوء فهم الآثار العميقة لكل هذا التغيير”.

لم تصبح القوة العسكرية والنجاح الاستراتيجي كافيين للانتصار، رغم أن آثار القتل والدمار لهما نفس الأهمية، ولذلك تقوم الحروب غير التقليدية على الاستنزاف بدلا من الإبادة، وتركز على أهمية الشراكات المحلية واكتساب الشرعية من السكان المحليين.

ويبدو أن الولايات المتحدة لم تتعلّم من دروس الماضي لتغيّر طرقها في التعامل عسكريا مع التهديدات. وكانت فيرجينيا وولف، الأديبة الأميركية التي توفيت في العام 1941، قد قالت في كتابها “السيد بينيت والسيدة براون (مقالات هوغارث)” إنه “في العقد الأول من القرن العشرين، تغيّرت حياة الإنسان بشكل أساسي”.

ويقترب هذا التاريخ من ذروة ما وصفته المؤرخة الأميركية باربرا توكمان التي توفيت قبل عام فقط من سقوط الاتحاد السوفييتي بـ”القرن الذي حدث فيه أسرع معدل للتغيير في سجل الإنسان”.

وكانت توكمان، التي حققت شهرة كمؤرخة في القرن العشرين مع كتابيها “زيميرمان تيليغرام” و”ذا غانز أوف أوغست”، تصف الآثار الجسدية للثورة الصناعية، وكانت وولف تصف التغييرات النفسية في المجتمع التي تسببت في حدوثها تلك التأثيرات.

لكن ما شعرت به وولف وما رأته توكمان كان شيئا غاب عنه القادة السياسيون في ذلك الوقت، فقد فشل رؤساء الدول ووزراء الخارجية ورؤساء أركان الجيش في تقدير التقدم التكنولوجي الثوري في أواخر القرن التاسع عشر والتسارع الجذري للحياة الذي أعقب ذلك.

وأدى عدم التطابق بين نماذجهم العقلية القديمة والواقع الجديد إلى شعورهم بالإغفال بشكل عملي لخطورة الحرب العالمية الأولى المميتة، دون أن يلتفتوا إلى تحذيرات حربي البوير، التي نشبت بين أفارقة من أصول هولندية في الفترة ما بين 1880 و1881 ثم بين 1899 و1902 حينما حاولت المملكة المتحدة توحيد مستعمراتها في جنوب أفريقيا.

كما لم يهتم السياسيون الأميركيون بالحرب الروسية اليابانية، التي جرت ما بين عامي 1904 و1905 بين الإمبراطورية الروسية وإمبراطورية اليابان، بسبب طموحات الدولتين التنافسية في منشوريا وكوريا. وقد كانت أهم مسارح العمليات في شبه جزيرة ليودونغ وموكدين في منشوريا الجنوبية والبحار المحيطة بكوريا، واليابان والبحر الأصفر.

تضغط هذه الحقبة الجديدة من الحرب الرقمية على عامل الوقت والمسافة، مما يؤدي إلى تشويش نطاقات القتال التي كانت منفصلة عن بعضها البعض قبل ذلك

ويعتقد براون أن السنوات التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى مليئة بالابتكار العسكري، تماما كما هو الحال اليوم، فعلى سبيل المثال، بعد تعرضهم لهزيمة كاملة ومحرجة في الحرب الفرنسية البروسية في عام 1870، التي نشبت بين الإمبراطورية الفرنسية الثالثة والولايات الألمانية للاتحاد الألماني الشمالي بقيادة مملكة بروسيا، واجه قادة فرنسا تحدّيا مروعا يتمثل في إصلاح الجيش الذي تعرض للإذلال التام وجعله بطريقة ما جاهزا للقتال في القرن العشرين.

وكان الباحثون العسكريون الفرنسيون يخشون بشدة من أن التكتيكات الناشئة التي تفضل التغطية والتحصين ستدفعهم إلى الوراء نحو “السلبية التي زُعم أن الفرنسيين مذنبون بسببها في عام 1870، وتدمر الرغبة الأخلاقية للتقدم والقتال”، وهذا ما قاله المؤرخ العسكري أزار جات.

وهكذا اعتنق الجيش الفرنسي مذهبا جديدا، حيث أعلن وزير الحرب الفرنسي جان أوغست بيرثوت قائلا إن “الهجوم الاستراتيجي وحده يعطي نتائج مهمّة وحاسمة ولذلك على المرء أن يبذل كل الجهود لاستغلاله بشكل جيد”.

وعُرِفت هذه العقيدة آنذاك باسم “المدرسة الفرنسية” ولكن يُشار إليها اليوم بشكل ساخر على أنها “عبادة الهجوم”، وتم غرس هذه العقيدة في أذهان جيل كامل من ضباط الجيش الفرنسي بفكرة أن الهجوم يمكن أن يفوز في آخر اليوم بغض النظر عن الصعاب، حتى أن البعض قال إنه “بالعودة إلى تقاليده، لم يعد يعرف الجيش أي قانون آخر غير الهجوم”.

لكن قادة فرنسا طبقوا الدروس الخاطئة، فإيمانهم بعقيدة الهجوم أدى إلى تفادي الحاجة إلى عمل إصلاح عسكري حقيقي، وحل تركيزهم المستمر على الحماس محل الابتكار التكنولوجي أو التنظيمي الحقيقي.

ولقد تجاهل الفرنسيون الاكتشافات التي أعقبت معارك بطرسبورغ وموكدن، وفضلوا بدلا من ذلك التمسك بحنينهم إلى مفاهيم نابليون التي عفا عليها الزمن مثل المناورة الاستراتيجية والإبادة.

كانت الحرب العالمية الأولى غير مسبوقة في حجمها ونطاقها وكان إيمان فرنسا الديني تقريبا بعبادة الهجوم مسؤولا إلى حد كبير عن تكبّدها لأكثر من مليون ضحية عانت منها أثناء تنفيذ الخطة 17 ومعركة الحدود في الأشهر الأولى للحرب عام 1914.

ولم تسمح التقنيات الجديدة والمجمّعة حديثا للجيوش مطلقا لقتل الكثير بهذه السرعة في العديد من الأماكن في وقت واحد. ما فشل القادة العسكريون الفرنسيون وصانعو السياسة في فهمه هو الطابع المتغير لحرب القرن العشرين، وهو فشل أدى إلى حدوث أكبر مذبحة بالجملة في تاريخ البشرية، وهو صراع استمر في إزهاق أرواح أكثر من 40 مليون شخص.

وبعد مرور أكثر من قرن بقليل، وجد المسؤولون السياسيون أنفسهم في بداية ثورة عسكرية تقنية أخرى. ولكن حيث تميزت الحرب العالمية الأولى بالأجهزة الثورية، مثل الاتصالات اللاسلكية وشبكات السكك الحديدية والمدافع الرشاشة والمدفعية بعيدة المدى، فإن القدرات الأكثر تقدما في الوقت الحاضر يتم تطويرها من خلال تطوير البرامج الثورية، التي تشمل تنوع كل من التكنولوجيا الرقمية والبشرية.

وتضغط هذه الحقبة الجديدة من الحرب الرقمية على عامل الوقت والمسافة، مما يؤدي إلى تشويش نطاقات القتال التي كانت منفصلة عن بعضها البعض قبل ذلك، كما ألغت أهمية الحدود الوطنية.

وانتشرت التكنولوجيا الرقمية عبر الكوكب، مرورا بالأفراد والأحزاب السياسية والدول القومية ومن خلالهم. ويضع هذا التواصل الدول أمام التلاعب والهجوم من خلال تسهيل الاحتكاكات الداخلية. وفي حين أن المعارك التي تدور في هذا المجال قد تكون افتراضية، فإن عواقبها -من التطرف إلى السيطرة على البنية التحتية- يمكن أن تكون حقيقية للغاية.

القادة الأوروبيون أخطأوا في الحكم على الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولذا على الولايات المتحدة ألا تكرر ذلك

ويؤكد براون أن صانعي السياسة في الولايات المتحدة فشلوا حتى الآن في تقدير التغييرات التخريبية التي تقوض ما يسمّى بـ”الطريقة الأميركية للحرب”، تماما مثل أسلافهم الفرنسيين في حقبة الحرب العالمية الأولى الذين فشلوا في تقدير مذبحة رشاش مكسيم والقذيفة شديدة الانفجار.

وقد تجاهلوا دروس الماضي القريب وضاعفوا بدلا من ذلك هياكل القوة ومنصات الأسلحة من خلال منح وزارة الدفاع المليارات من الدولارات لشراء نسخ أفضل قليلا من الأشياء التي تمتلكها بالفعل. وقد أقرت استراتيجية الدفاع الأميركي لعام 2018 بذلك لكنها لم تصل إلى حد الدعوة إلى إجراء نوع من الإصلاحات الشاملة المطلوبة.

ومع ذلك، فقد أدخلت الاستراتيجية نقطة تحول، حيث وجهت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) للتخلي بشكل أساسي عن تعلّقه بقضايا الإرهاب التي تبناها على مدار عقدين من الزمن وتحويل تركيزه إلى “المنافسة الاستراتيجية طويلة المدى” مع القوى العظمى المتنافسة، أي الصين الصاعدة وروسيا المتمرّدة.

العرب