تحرج زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى باريس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي سيجد نفسه مجبرا على توضيح موقفه من ملفات إقليمية عالقة لإدارة متخلية. وتراجع النفوذ الفرنسي في عدة ملفات مؤخرا لفائدة الرؤية الأميركية التي استطاعت واشنطن فرضها على اللاعبين الدوليين.
باريس – تضع زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى فرنسا الاثنين، الرئيس إيمانويل ماكرون في موقف دقيق بعد أن بات الأخير يتطلع إلى مناقشة الملفات الإقليمية العالقة مع الرئيس الأميركي المنتخب جو بادين الذي يحمل مقاربات أكثر مرونة من سلفه دونالد ترامب.
ويرى متابعون أن زيارة وزير الخارجية الأميركي، الذي تنتهي مهامه رسميا بحلول يناير القادم، يمكن توصيفها على أنها زيارة جس نبض للموقف الفرنسي من الملفات الإقليمية العالقة خصوصا التحركات الأميركية الأخيرة في الملفين الليبي واللبناني كما الموقف من شرق المتوسط.
وتقف فرنسا والولايات المتحدة على طرفي نقيض في هذه الملفات، إذ فرضت واشنطن رؤيتها للسلام في ليبيا عبر المبعوثة الأميركية إلى طرابلس ستيفاني وليامز، كما أمسكت على ما يبدو بخيوط اللعبة في لبنان كذلك عبر سفيرتها في بيروت دوروثي شيا.
وتحتاج الاستراتيجية الأميركية خصوصا في ليبيا إلى دعم الدول المؤثرة، خصوصا باريس، من أجل دعم وليامز التي نجحت في فرض الرؤية الأميركية للسلام في ليبيا، فيما فشل فيه المبعوث الأممي السابق المحسوب على فرنسا غسان سلامة.
ولا يستبعد مراقبون أن تحاول الحكومة الفرنسية فرض نفسها لاعبا رئيسيا في ليبيا واستعادة نفوذها بمجرد مغادرة إدارة ترامب للسلطة، حتى على حساب بعثرة “المنجزات” السياسية التي حققتها وليامز إلى حد الأن.
ويشير هؤلاء إلى أن زيارة بومبيو إلى باريس، والتي من المرجح أن تكون الأخيرة، تحرج الرئيس الفرنسي الساعي لاستعادة زمام المبادرة في ليبيا، إذ أنه يجد نفسه مجبرا على طرح موقفه من مجريات الأحداث هناك ومدى تحمسه لما تحقق على الصعيد السياسي.
وفي لبنان، منطقة النفوذ الفرنسي التاريخية، تسعى السفيرة الأميركية لدى بيروت، دوروثي شيا، للإمساك بكافة خيوط اللعبة وقطع الطريق على المبادرة السياسية الفرنسية التي لا تمانع مشاركة حزب الله اللبناني في حكومة رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري، وهو ما تعبره واشنطن تقويضا لاستراتيجيتها في مواجهة النفوذ الإيراني في لبنان.
واعتبرت السفيرة الأميركية أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستضطر واشنطن لإدارة ظهرها للبنان، ولن يستطيع أحد حينها مساعدته، في إشارة إلى الجهود الفرنسية.
وقالت شيا في معرض تصريحاتها “إذا لم نفعل ذلك فسيعودون إلى فسادهم ولا أحد سوف يساعد لبنان بتاتا، إلا إذا رأينا تقدما خطوة بعد خطوة ولن يكون هناك أي شيء مجاني بعد اليوم”.
وفي أغسطس الماضي، التقى الرئيس الفرنسي رؤساء الأحزاب الكبيرة في لبنان، وأطلق “مبادرة” تشمل تشكيل حكومة جديدة، وإصلاح النظام المصرفي، ما اعتبرته قوى لبنانية تدخلا في شؤون بلدهم.
وعند طرح مبادرته، اعتبر ماكرون أن الفرصة مواتية لتكريس نفوذ فرنسا في ظل نوع من التخلي الدولي ومقاربة أميركية متخبطة، غير أن هذه الحسابات لم تأخذ بالحسبان أن التريث الأميركي لا يعني أن الساحة فارغة أمام باريس.
ويعاني لبنان، منذ شهور، أسوأ أزمة اقتصادية منذ نهاية الحرب الأهلية (1975 – 1990)، واستقطابا سياسيا حادا، في مشهد تتصارع فيه مصالح دول إقليمية وغربية أهمها فرنسا.
وزادت أوضاع لبنان سوءا عقب الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في 4 أغسطس الماضي، حيث أودى بحياة أكثر من 200 شخص، وأصاب ما يزيد على 6 آلاف آخرين، بجانب دمار مادي هائل.
وفي علاقة بالصراع في شرق المتوسط، يمثل الانخراط الأميركي المباشر في الأزمة على الرغم من أنه جاء متأخرا، منعرجا آخر تعمل واشنطن من خلاله على تكريس نفوذها هناك، ما يسحب البساط من تحت أقدام فرنسا التي تقود جبهة أوروبية في مواجهة التحركات التركية.
وفشلت باريس في كبح الأطماع التركية للتنقيب عن الغاز في مياه اليونان وقبرص رغم تهديدها بفرض عقوبات أوروبية على أنقرة والتلويح باستخدام القوة العسكرية، إلا أن الانخراط الأميركي في الأزمة يحمل في طياته رؤية أميركية لحل النزاع قد تتعارض مع مصالح فرنسا في المنطقة.
ويسمح الثقل الدبلوماسي والاقتصادي إلى جانب القوة العسكرية التي تتمتع بها واشنطن بفرض رؤيتها على الأطراف المتصارعة لتجاوز الخلافات في المنطقة بما يخدم مصالحها أولا.
ويشير مراقبون إلى أن من مصلحة واشنطن تسوية النزاع في المنطقة قبل أن تدخل روسيا غريمتها التقليدية على الساحة بغض النظر عن الطرف الأكثر استفادة من التسوية، سواء كانت تركيا أم اليونان وقبرص.
ولا تخدم الرؤية الأميركية لتجاوز الصراع مصالح فرنسا، كما أنها تحجم نفوذها في منطقة تعتبرها امتدادا للمجال الحيوي الأوروبي.
وأبدت واشنطن دعما لليونان وقبرص في خلافهما مع تركيا، لكنها شددت في ذات الوقت على ضرورة الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ويرى متابعون أن لدى واشنطن أوراق ضغط كافية لإجبار الفرقاء على التفاوض ومن ثمة الإمساك بخيوط اللعبة وفرض رؤيتها للنزاع.
العرب