الحكومة العراقية الطامحة إلى حلّ الأزمة الاقتصادية الحادّة للعراق عن طريق عقد شراكات مع بلدان المنطقة وجلب استثمارات خارجية، تصطدم بواقع سياسي غير ملائم يتمثّل في نفوذ الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران وقدرتها على ضرب أي مشروع يتناقض مع المصلحة الإيرانية باستخدام عدّة طرق بدءا بالضغط السياسي والإعلامي وصولا إلى التهديد باستخدام السلاح.
بغداد – تخلّت السعودية بشكل مبكر عن مشروع ضخم كان بصدد النقاش مع الجانب العراقي ويقوم على استثمار مساحات شاسعة من الأراضي العراقية في الزراعة، وذلك بسبب نقص المياه اللاّزمة للمشروع حسب الرواية الرسمية العراقية، بينما عزت مصادر غير رسمية الأمر إلى ضغوط شديدة مارستها أذرع إيران في العراق من سياسيين وقادة ميليشيات شيعية مسلّحة على السلطات العراقية لوقف مسار الشراكة الذي شرعت بغداد والرياض في بنائه بسرعة وحرص مثيرين لهواجس طهران وقلقها على نفوذها في العراق.
وقال وزير الزراعة العراقي محمد الخفاجي إن السعودية تراجعت عن فكرة استثمار قرابة ثلاثة مليارات دولار ضمن القطاع الزراعي في بلاده، معللا الأمر بـ”نقص المياه”.
وعقدت وفود تخصصية عراقية وسعودية، طيلة الأسابيع الماضية، اجتماعات في بغداد والرياض، لمناقشة إمكانية استثمار ملايين الدونمات من أراضي الصحراء العراقية في محافظات الأنبار والنجف والمثنى.
ولم يعلن البلدان نتائج نهائية لهذه الاجتماعات، ولكن مصادر عديدة أكدت التوصل إلى اتفاق واعد، تقوم السعودية بموجبه باستثمار قرابة ثلاثة مليارات دولار في القطاع الزراعي والثروة الحيوانية داخل العراق.
وبدا أن هذه التفاهمات العراقية السعودية استفزت إيران إلى الحد الأقصى ودفعتها إلى تحريك أذرعها في الداخل العراقي لإحباطها في وقت مبكر.
وشنت وسائل الإعلام العراقية التي يديرها الحرس الثوري الإيراني، مثل قناة “آفاق” المملوكة لزعيم حزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي وقناة “العهد” المملوكة لزعيم ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، هجوما واسعا على خطة الاستثمار السعودي في القطاع الزراعي العراقي، مشيرة إلى أنها محاولة لاحتلال أراض عراقية.
واشترك المالكي والخزعلي شخصيا في مهاجمة الاستثمارات السعودية ضمن القطاع الزراعي العراقي، وقالا إنها خطة لتدمير خزين العراق من المياه الجوفية.
وطالبت كتلة الفتح النيابية، التي تضم ممثلي الميليشيات التابعة لإيران في مجلس النواب العراقي باستجواب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي حول الاستثمارات السعودية في العراق، متهمين إياه بدعم خطط التطبيع العربي الإسرائيلي عبر بوابة الاقتصاد العراقي.
وتطور الأمر كثيرا، وانتقل إلى التهديدات الميدانية المباشرة، عندما عقدت “المجاميع الخاصة”، وهي صفة لمجموعات قتالية صغيرة مرتبطة بالميليشيات الكبيرة التابعة لإيران مهمتها مهاجمة السفارات والمطارات والمعسكرات بصواريخ الكاتيوشا، و”ربع الله” وهم حشود من الشبان المدنيين مهمتهم محاصرة مقرات الجهات الدبلوماسية والسياسية والإعلامية التي تنتقد إيران، و”جبهة أبو جداحة” وهي مجموعات مهمتها اقتحام مقرات البعثات الدبلوماسية، والجهات السياسية والإعلامية التي تنتقد إيران وإحراقها كما حدث مع مقر قناة “أم.بي.سي عراق” قبل شهور، اجتماعا في بغداد جرى خلاله الاتفاق على “أن أي مجال لاستثمار سعودي سيكون هدفا للجماعات المتحالفة”.
وأقر المجتمعون أن “لا مجال لأي استثمار سعودي إلا بعد تعويض عوائل الشهداء الذين كانوا ضحايا المفخخات والفتاوى السعودية، وإعدام الإرهابيين في سجن الحوت وشفاء قلوب الأمهات العراقيات من الجنوب والغرب والشمال”، مشيرين إلى أن “الدماء لا تسقط بالتقادم”.
واعتبر المجتمعون أن “عبارة (فتحنا صفحة جديدة) نكتة هزيلة، إذ لا تفتح الصفحات إلا بعد تعويض الأخطاء، ودفع دية الدماء”.
لكن وزير الزراعة العراقي محمد الخفاجي عرض معلومات تتعلق بخطط الاستثمار السعودية، دعت إلى السخرية من التصعيد الإيراني الذي بدا أنه يستند إلى أوهام.
وقال الخفاجي إن السعودية طلبت من العراق تقديرا لإمكانية إصلاح ملايين الدونمات الصحراوية في ثلاث محافظات، عبر مشاريع لتربية الأبقار.
وأضاف أن وزارته أجرت مسحا دقيقا للمساحات المستهدفة، وقدمت نتائجه إلى وزارة الموارد المائية، المختصة بتحديد مدى صلاحية الأراضي للاستثمار الزراعي.
وتابع الخفاجي، أن الاستثمارات السعودية المتوقعة كانت تتطلب إنفاق مليارات الدولارات، ما يستلزم بالضرورة وجود ضمانات كافية، مشيرا إلى أن السعودية طلبت ضمان أن يلتزم العراق بتوفير المياه بشكل مستدام لمدة 50 عاما في المساحات المستهدفة. وأكد أن وزارة الموارد المائية ردت بأن المياه الجوفية المتاحة في هذه المناطق، لا تغطي احتياجات أكثر من خمسة أعوام، ما دفع السعودية إلى التراجع عن خططها.
وأشار الوزير إلى أن البديل هو منح مساحات محدودة من الأراضي لمستثمرين صغار، يمكنهم الاستفادة من كميات المياه الجوفية المتاحة في هذه المناطق.
ويقول مراقبون إن ما حدث في هذا الملف يجسد قرار إيران باستهداف كل ما هو سعودي في العراق، حتى إذا كان الأمر يتعلق بمشاريع لم يتم إقرارها بشكل نهائي.
ويقول صالح الحمداني، وهو مدون عراقي بارز، إن أي استثمار خارجي في العراق، يجب أن ينال موافقة إيران أولا.
ويعاني العراق تراجعا كبيرا في أداء معظم القطاعات الخدمية، مقرونا بأزمة اقتصادية تتعلق باعتماد البلاد على بيع النفط فقط، وأخرى مالية يمثلها نقص السيولة الحاد.
ويلقي العراقيون باللوم في خراب الاقتصاد على السياسات التي اتبعتها الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران منذ 2003، إذ جرى تدمير الصناعة المحلية وإرهاق الدولة بجحافل من الموظفين لا تقوم بمهام فعلية فضلا عن إشاعة الفساد الإداري والمالي في المؤسسات الرسمية، ما حول الحكومة إلى كائن ضخم ومترهل لكنّه مشلول.
العرب