أوروبا والحرس القومي

أوروبا والحرس القومي

580

إن النزعة الشعبوية آخذة في الارتفاع في مختلف أنحاء أوروبا، حيث أصبحت البلدان الراكدة والمزدهرة اقتصاديا على حد سواء محبطة على نحو متزايد إزاء نخبها السياسية الراسخة.

بيد أنه من غير المرجح أن يسيطر الشعبويون على أي حكومة أوروبية في المستقبل المنظور، حتى في البلدان التي تبدو فيها المخاطر مرتفعة حاليا، مثل المجر واليونان وفرنسا. ذلك أن غالبية الناخبين الذين تدفعهم مخاوفهم أو حسهم السليم ما زالوا غير مستعدين لقبول احتمال العزلة عن بقية أوروبا.

ولكن هذا لا يعني أن الاتحاد الأوروبي آمن من قوى الانقسام والفرقة. بل على العكس من ذلك، تمثل عودة القومية، حتى في البلدان التي شكلت الجوهر المؤسِّس للاتحاد الأوروبي قبل أكثر من ستين عاما (وبشكل خاص هناك) تهديدا أقل إثارة ولكنه في الأرجح أشد تقويضا للوحدة الأوروبية.

كان هذا الاتجاه واضحا بشكل صارخ الأسبوع الماضي خلال زيارة إلى هولندا، وهي أحد البلدان الستة الأصلية الموقعة على معاهدة روما. وأثناء رحلتي، قمت بزيارة متحف ريجكس، الذي أعيد افتتاحه عام 2013، بعد عملية تجديد دامت عشر سنوات. كان المبنى السابق، الذي أصابته الشيخوخة وأصبح عتيقا بعض الشيء، بمثابة تكريم للرسامين العظماء من هذا البلد مثل رامبرانت، وفيرمير، وكان احتفالا مثاليا بالضوء والعائلة.

أما متحف ريجكس الجديد، فهو برغم كونه تجسيدا جديدا ناجحا ومذهلا ينقل رسالة مختلفة تماما، فيخدم كاحتفال بالفن والتاريخ الهولندي. فهو يخصص غرفة واحدة للقوة البحرية التي كانت تتمتع بها البلدان الخفيضة في النصف الثاني من القرن السابع عشر، عندما كانت هولندا المستقلة حديثا، تحت قيادة الأدميرال ميشيل دي رويتر، قادرة على هزيمة الفرنسيين، والإسبان، بل وحتى البريطانيين في البحر.

وهناك غرفة أخرى تسمى “واترلو” تسلط الضوء على هزيمة نابليون على ما كان في ذلك الحين أرضا هولندية. وتتركز الغرفة حول لوحة ضخمة، تم ترميمها بالاستعانة بتبرعات من مواطنين هولنديين تشيد بدوق ولنجتون، فضلا عن الدور الذي لعبه ويليام أوف أورانج، الملك المرتقب آنذاك لهولندا، في المعركة.

وأنا بطبيعة الحال لا أختلف مع غرفة واترلو من منطلق شعور بالشوفينية الفرنسية. فقد كان نابليون طاغية شن حروبا دموية ولا طائل منها، من إسبانيا إلى روسيا. ولم تكن هزيمته مأساة بكل تأكيد.

ولكن في المتحف القديم، لم تكن هناك حاجة للاحتفال بهذه الهزيمة. فلم تكن الروح الجمعية للشعب الهولندي في احتياج إلى تذكر مساهمة بلادهم في سقوط نابليون، والذي أدى إلى استعادتهم لاستقلالهم، ولفترة وجيزة استعادتهم للسيطرة على هولندا كما هي في الوقت الحاضر.

ولكن في السنوات الأخيرة -خلال العقد الذي مر منذ رفضهم المذهل للمعاهدة المؤسِّسة لدستور الاتحاد الأوروبي- شعر الهولنديون بشكل متزايد بالحاجة إلى الاحتفال بمجد ماضيهم بالطريقة الأكثر تقليدية. فهم كغيرهم من الأوروبيين يستحضرون الماضي للتعويض عن خيبة الأمل والإحباط من الحاضر وعدم اليقين إزاء المستقبل.

قبل ستين عاما، كانت العودة إلى الماضي هي على وجه التحديد ما سعت البلدان الأوروبية إلى تجنبه. فهي لم تمجد معارك عسكرية، إذ كان بوسعها أن ترى الخرائب والأنقاض التي خلفتها تلك المعارك في كل مكان، الصور التي ألهمت هذه البلدان بناء نوع مختلف من المستقبل. ومن خلال تجاوز السيادة الوطنية، كانت هذه البلدان تأمل حماية نفسها من العودة إلى الصراع والدمار.

من المؤكد أن فخر المرء بهويته الوطنية ليس في حد ذاته شيئا سيئا. بل على العكس من ذلك. ففي أوروبا التي تتألف من دول مختلفة، تشكل ثقة المرء في هويته شرطا أساسيا لإتمام التكامل الاقتصادي والسياسي. فلكي يكون المرء أوروبيا فخورا لابد أن يكون ألمانيا أو إسبانيا أو بولنديا فخورا.

ولكن ماذا لو سيطرت مشاعر الفخر الوطني في وقت يتسم بالشكوك العميقة بل وحتى الوجودية حول قيمة أوروبا؟ في حين يفهم أغلب الأوروبيين أن بلدانهم لا يمكنها أن تتصدى للتحديات التي تواجهها بمفردها، فإنهم يفقدون اليقين بأن أوروبا هي الحل. فبعيدا عن التحديات الاقتصادية المستمرة، أثبت الاتحاد الأوروبي حتى الآن عدم قدرته على إيجاد حل مشترك ومتماسك وراسخ ويتفق مع القيم الأوروبية لأزمة اللاجئين المتزايدة الحِدة.

إن الاتحاد الأوروبي ليس عاجزا بطبعه عن التصدي لهذه التحديات. فالمشكلة هي أن ما يحتاج إليه الاتحاد -المزيد من التكامل- هو على وجه التحديد ما أصبح الأوروبيون غير راغبين في دعمه.

ويبدو أن ظهور تهديد مباشر يمثل خطرا داهما، مثل الحرب مع روسيا، هو الأمر الوحيد الكفيل بدفعهم إلى اتخاذ هذه الخطوة المهمة المتمثلة في منح المزيد من الصلاحيات لمؤسسات الاتحاد الأوروبي التي فقدوا إيمانهم بها.

إن السنوات السبعين التي مرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لا تمثل سوى جزء ضئيل من تاريخ أوروبا، وهي ليست فترة طويلة بالقدر الكافي لتحويل الطريقة التي يرى بها الناس أنفسهم أو بلدانهم.

ومكمن الخطر هنا هو أن السنوات السبعين كانت طويلة بالقدر الكافي لكي يبدأ الأوروبيون نسيان السبب الذي دفعهم إلى ملاحقة التكامل في المقام الأول. وإذا كانت هذه هي الحال، فإن ذلك النوع من تمجيد الماضي الذي نراه في متحف ريجكس المجدد يُعَد نذيرا بالغ السوء حقا.

دومينيك مويسي

الجزيرة نت