كان من الطبيعي لمؤسس مصر الحديثة الخديوي محمد علي الكبير، أن يعزو انتصار فرنسا إلى تفوق جيش نابليون العسكري وهو يشاهد جنود مصر البواسل تحصدهم المدافع الغربية المتطورة.
وحتى اليوم، لا أحسب أن معظم الحكام العرب يدركون الأبعاد والمعنى الحقيقيين للتنمية، ولا ضرورة مشاركة شعوبهم في عملية صنع القرار. فمعظمهم ما يزال يعمل خلف أسوار قصره العالية، معتقدا أن الأمن هو الأمن العسكري البوليسي فحسب، وأن هدف أي جهد آخر هو تعزيز القدرة العسكرية والبوليسية. ويستمر بعضهم في التحايل، بمختلف الوسائل، على دساتير دوله وإحكام قبضته على عملية انتخاب المجالس التشريعية.
قام بعض المثقفين بإقناع الخديوي محمد علي بضرورة ترجمة بعض المراجع الأساسية للفكر الغربي. وضمن ذلك ضرورة ترجمة كتاب “الأمير” للمفكر الكبير نيقولا مكيافيللي. لكن ما إن استمع محمد علي إلى قراءة بعض من صفحات هذا الكتاب، حتى طلب عدم الاستمرار في ذلك، مضيفا أن ليس بمقدور مكيافيللي تعليمه شيئا! ومن الضروري الإشارة كذلك إلى رد فعل السلطان العثماني في أوائل ستينيات القرن التاسع عشر، حين سمع باختراع التلغراف؛ إذ سارع إلى استيراده، لا لأن في ذلك وسيلة لنقل الأفكار أو التواصل مع العالم، وإنما لأنه رأى فيه وسيلة لإحكام القبضة العسكرية البوليسية على المجتمع.
هنا لا بد من التذكير بأن معظم الجيوش في العالم الثالث، ومنها العربية، تختلف عن تلك في العالم الغربي، من حيث طبيعة أهدافها وتكوينها. إذ لعل على رأس أهداف جيوش العالم الثالث حماية الدولة وتعزيز قدراتها على قيادة عملية التغيير، وكثير من ضباطها وأفرادها انضموا إليها لا كمهنة عسكرية قتالية بحتة (Professional) كما هي الحال في الغرب، وإنما كوسيلة أو وظيفة للعيش، وإنْ بزي عسكري.
جاء التغيير المجتمعي في الغرب بناء على رغبة مؤسسات المجتمع المدني. وكانت الدولة تحاربه أحيانا، وتسعى إذا كان لا بد منه، إلى أن يبقى في أضيق الحدود. فالتغيير هناك جاء على دفعات وبتطور، وأحيانا بعد عناء وصدام بين الدولة والأحزاب ونقابات العمال وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني التي كانت قائمة، ومنها اتحادات حقوق الإنسان وحقوق المرأه. جميع هذه المؤسسات نشأت هناك خارج إطار الدولة وعلى صدام معها أحيانا.
أما النموذج العسكري المصري، فقد جاء فجأة، برغبة وقيادة الدولة التي كانت تعتقد أنها في سباق مع الزمن لتحقيق التطور وعملية التغيير المجتمعي. إذن، في منطقتنا الدولة هي رائدة التغيير الفوقية، بما يشمل جميع مناحي الحياة، حتى ليمكن القول إنها هي التي فرضت التغيير في غياب مؤسسات المجتمع المدني، كما كانت الحال حين البدء بعملية التنمية والتغيير. وهكذا نجد أنه حتى العملية التربوية لم تهدف إلى انفتاح العقول أو السماح لها بإجراء التجارب لاستنباط حقائق ووسائل جديدة لرفع مستويات المعيشة ونوعية الحياة، أو الدخول في عصر النور والعلم، وإنما جاءت هذه العملية لهدف معين، هو تعزيز قوة الدولة وإحكام سيطرتها على المجتمع.
المؤسسات الثلاث الرئيسة الأهم في مجتمعاتنا الشرق أوسطية؛ السياسية والروحية والتربوية، في حلف غير مكتوب. ولا أحسب أنه حتى قياداتها وعلى أعلى المستويات واعية لوجود هذا الحلف أو التعاون الوثيق بينها للحفاظ على الوضع القائم (Status Quo)؛ المعني بالدرجة الأولى والأساسية بالأمن والاستقرار فوق أي قيمة أخرى. ومثل فلسفة التعليم هذه لا ترغب، بالضرورة، في إطلاق العقل من الأوتاد التي تشده إلى ما هو فيه، بل تسعى إلى تدجينه من خلال اقتصار العلم على الحفظ والبصم، بدلا من اللجوء إلى استنباط حقائق جديدة من خلال الوسائل التجريبية. فكثير من الحكام لا يريدون مواطنين مفكرين، وإنما رعايا سهلة القيادة.
تؤكد الكاتبة الكبيرة كارين آرمسترونغ في كتابها “المعركة من أجل الله: تاريخ الأصولية”، والمنشور في العام 2001، أن اعتماد محمد علي على الدولة كأداة رئيسة للتغيير، كان بسبب حلمه ببناء جيش قوي عصري على الطراز الأوروبي.
والدولة في عالمنا الشرق أوسطي كانت قائمة حين لم يكن هناك تجمعات مجتمع مدني بالمعنى الحديث. وبسبب تمدد صلاحياتها وسلطاتها (الدولة) لتشمل كل مناحي حياة الإنسان في المجتمع من المهد إلى اللحد، فقد كان من الطبيعي بالنسبة لها أن تركز سلطتها كاملة بيد الحاكم، وتسليط جميع أضواء الإعلام عليه، لدرجة أن بعض أجهزة الإعلام، وبمبالغة فاضحة أحيانا، كانت تلقبه بالملهم، مع العلم أن الإلهام هبة من الله وصفة من صفات النبوة. وتركيز السلطة بيد واحدة جاء في سياق التركة السياسية والاجتماعية التي وصلت إلى مجتمعاتنا عبر تركة الدولة العثمانية التدخلية.
لم يدرك محمد علي، وهو معذور في ذلك، أن مناعة وقوة الجيش الفرنسي جاءت ضمن سياق مجتمع “الحرية والمساواة والأخوة”؛ شعار الثورة الفرنسية، لا مجتمع الراعي والرعية. وشتان ما بين مفهوم المواطنة المبني على المساواة واحترام عقل وحرية كل إنسان، وبين مفهوم الراعي الذي لا يتنازل، لا بل لا يخطر في باله أبدا أن يستشير أو يتفاكر مع رعيته.
وقد جاءت رياح التغيير عاصفة في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، تعززها طموحات وأحلام ورغبات شعوب المنطقة التي كانت تسمع وتقرأ عن أحوال العالم الغربي. لكن لا رضا بهلوي، ولا ابنه شاهنشاه أو ملك الملوك في إيران، ولا مصطفى كمال أتاتورك، شاركوا شعوبهم هذه الطموحات والأحلام. فالأصل عندهم كان الاستقرار، والتنمية وجميع ما تعنيه هي لتعزيز هذا الاستقرار. أما في العالم العربي، وبعد فترة من محاولات تأسيس حكم مدني دستوري، وبسبب الهجمة الصهيونية والغربية التي لا ترحم لاستعمار فلسطين، فإنه سرعان ما احترقت جهود الانفتاح والليبرالية في أتون القهر والظلم الغربي، وردة فعل الجماهير العربية الغاضبة.
وباستثناء الأردن الذي تمتع بقيادة مختلفة وجادة في محاولات التنمية والمشاركة في التطور بالروية والابتعاد عن العنف، فقد عادت معظم الأنظمة المشرقية العربية إلى الاعتماد الأساسي والرئيس على الجيش وتوابعه من القوات الأمنية. وبعضها غلف نفسه أحيانا بمحاولات تشبه استخدام ورقة التوت، من خلال تأسيس الحزب الواحد وتجيير العقيدة، كحزب البعث وغيره، لتخفي هذه الأنظمة نفسها خلف عقيدته، وتبرير استبداد حكم الفرد المطلق الذي كان يتلاعب لا بأموال خزينة دولته فحسب، بل أيضا برقاب ابناء شعبه ودمائهم!
ما يجري في وطننا العربي اليوم، يعود بالدرجة الأولى إلى استمرار محاولات اختراقنا والسيطرة علينا عن بعد أو عن قرب، من دول العالم الغربي وإسرائيل. لكن الأهم أن معظمه يعود إلى الحكام العرب الذين كانت تنقصهم الثقافة والخبرة، والذين بسبب أوضاعهم العائلية والمعيشية كانوا يفتقرون إلى حكمة فن القيادة والحكم. فلا شك بأن الرئيسين عبدالناصر وصدام حسين وغيرهما من المعروفين في الوطن العربي منذ خمسينيات القرن الماضي كانوا وطنيين، ولكنهم وبسبب انعدام خبرتهم في فن الحكم أوصلوا الأمور إلى ما وصلت إليه.
حزنت كل الحزن لوفاة عبدالناصر العام 1970. وحزنت واستشطت غضبا حين شاهدت على التلفزيون طبيبا غربيا يفتح فم صدام حسين عنوة ليتفحص أسنانه وكأنه مخلوق آخر لا يمت للإنسانية بصلة. وكذلك كان شعوري إزاء البربرية التي تم التعامل بها مع جثمان معمر القذافي. وأحسب أنهم جميعهم كان لديهم حسن النية أو البعض منها، لكن الأهم أن يتعظ ويتعلم من يقودون عالمنا العربي اليوم، وأن ينهجوا منهجا جديدا؛ إذ تغيرت الأحوال، وتعلمت الشعوب أن وسائل الحكم السابقة بالتحايل على القانون وأساليب “فرق تسد” والضحك على اللحى أو تبويسها، ليست السبيل نحو مستقبل أفضل.
يتم تدمير العالم العربي، المشرقي بالذات، بشكل منهجي مخطط له. وعلى القيادات السياسية مسؤولية تاريخية خطيرة، بأن تصارح شعوبها بشأن ما يجري، وأن يشاركوها حقا في عملية صنع القرار.
أ.د كامل صالح أبو جابر
صحيفة الغد