تحضر النمسا، عادة، في «بروشورات» وملصقات الشركات السياحية التي تركز على جمال طبيعتها الأخاذة، وقصور ملوكها وأميراتها أيام كانت عاصمة للامبراطورية الهنغارية – النمساوية، لكنّ هذه الصورة، لا تلبث أن تطغى عليها، من فترة لأخرى، صورة أخرى لبلد تحاول قوى سياسية فيه بعث ذكريات أدولف هتلر، المولود فيها، وجرّ البلاد، وأوروبا من ورائها، نحو اليمين المتطرّف الذي تسبّب، مع صعود النازية في ألمانيا واستيلائها شبه السلمي اللاحق على النمسا، في أكبر كارثة عسكرية في تاريخ الكرة الأرضية.
تعرضت النمسا إلى حادثة هجوم إرهابي نفذه شاب نمساوي من أصول مقدونية في العشرين من عمره كان قد سجن 22 شهرا لمحاولته السفر إلى سوريا للالتحاق بتنظيم «الدولة الإسلامية» وأطلقت السلطات سراحه عام 2019، ورغم أن عددا من المسلمين، من أصول فلسطينية وتركية، ساعدوا الضحايا، فقد تم وضع الهجوم، كالعادة، تحت مسمى «إرهاب إسلامي».
لم تكتف السلطات بذلك فقامت بعدها بمداهمة مقرات جمعيات إسلامية ومساجد ومنازل وقبضت على العشرات من القريبين من أوساط «الإخوان المسلمين» وحركة «حماس» بدعوى أن حركات «الإسلام السياسي» تعتبر «حاضنة للإرهاب» سابقة بذلك فرنسا، ورئيسها إيمانويل ماكرون، الذي يمضي بالاتجاه نفسه، وقام أمس بجمع قادة المسلمين في فرنسا ممهلا إياهم 15 يوما لوضع ميثاق يؤكد أن الإسلام دين فحسب ولا علاقة له بالسياسة!
عاد الجدل السياسي والإعلامي في النمسا (وفرنسا) مجددا مع كشف جريدة «كورير» النمساوية تقريرا يكشف حماية «المكتب الاتحادي لحماية الدستور» وهو الاسم «الفني» لجهاز الاستخبارات النمساوي، لمجرم حرب وضابط سابق في نظام بشار الأسد السوري، وقد جمع إضافة إلى هذه الصفات المشينة أنه كان يعمل أيضا لصالح المخابرات الخارجية الإسرائيلية «الموساد».
ساعدت أجهزة أمن في النمسا وإسرائيل، حسب التقرير، ضابط الاستخبارات والعميل المزدوج في الحصول على اللجوء في النمسا ضمن عملية استخباراتية حملت اسم «الحليب الأبيض» وبعد رفض فرنسا طلب لجوئه إليها، نسّق الموساد مع المخابرات النمساوية لتهريبه إلى أراضيها، وساعدته على الحصول على حق اللجوء في وقت قياسي، بالمقارنة مع الصعوبة البالغة التي تواجه اللاجئين السوريين، من ضحايا أمثال ضابط الأمن المذكور، وبذلك تم استخدام قانون اللجوء لتأمين الحماية لجلاد ومجرم حرب، فيما يُهدد الضحايا بالإبعاد والتسفير ليعودوا إلى الجحيم الذي هربوا منه.
يوضّح التصريح الذي أطلقه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد عملية فيينا بعضا من التشابك بين عناصر هذه الأحجية، فقد قال إنه تواصل مع المستشار النمساوي سيباستيان كورتز مؤكدا وقوف دولته «مع النمسا ضد وحشية الإرهاب الإسلامي» مبرزا دور بلاده في مساعدة الدول الأوروبية في «مواجهة الإرهابيين الإسلاميين».
هناك روابط لا يمكن إغفالها بين أعمال إسرائيل الإرهابية ضد الفلسطينيين والعرب، واستغلالها وجهات أوروبية الهجمات الفردية لقلب المعادلة من خلال تجريم العمل السياسي المناهض لإسرائيل أو لليمين المتطرف أو للاستبداد العربي، وبعد أن كان استهداف «الإسلام السياسي» وظيفة خاصة بأنظمة الاستبداد العربي لاجتثاث أي حراك ضدها، صار شائعا الآن في أوروبا استهداف جهات وأفراد وجمعيات إسلامية في أوروبا بدعوى أنها «تمارس السياسة» واستقبال مجرمي حرب كلاجئين إنسانيين!
القدس العربي