منذ اعلان إدارة ترامب في 8 أيار/ مايو 2018 الانسحاب من جانب واحد من اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة/ الاتفاق النووي، الموقع بين إيران ومجموعة 5+1 (الدول دائمة العضوية في مجلس الامن فضلا عن ألمانيا) في حزيران/يونيو 2015 تنفيذا لما سبق ان التزم به في حملته الانتخابية، ثم إعلانه حزمة عقوبات منفردة متتالية على إيران، وفرضه عقوبات على الدول التي لا تلتزم بها، فاقمت فيها الوضع الاقتصادي إلى حد غير مسبوق حتى في ظل العقوبات الدولية المتتالية التي فرضها مجلس الأمن، او التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على إيران بسبب برنامجها النووي ما بين عامي 2006 و2012، كان الرهان الإيراني يقوم على خسارة الرئيس ترامب حملته الانتخابية لولاية ثانية، وبالتالي إمكانية الذهاب إلى مفاوضات ماراثونية ثانية مع إدارة ديمقراطية جديدة أقل تشددا.
وقد كشف الرئيس المنتخب عن سياسته تجاه إيران في مقالة كتبها في موقع قناة سي إن إن الأمريكية في 13 أيلول/ سبتمبر الماضي، انتقد فيها انسحاب ترامب من الاتفاق النووي وسياسته المتشددة تجاه إيران، وقال انه سيعيد الولايات المتحدة إلى هذا الاتفاق كبداية للتفاوض، ولكنه في الوقت نفسه سيعمل مع الحلفاء على تعزيز شروط الاتفاق النووي وتوسيعها، مع معالجة قضايا أخرى أيضا، في إشارة إلى موضوع الصواريخ البالستية والتدخلات الإيرانية في محيطها الإقليمي. وإن بدا أكثر تشددا تجاهها عندما قال في مناظرته الأخيرة مع ترامب بأن روسيا والصين وإيران سيدفعون الثمن لتدخلهم في السيادة الامريكية في حال انتخابه!
في المقابل، وعلى الرغم من تحفظهم، لم يستطع الإيرانيون إخفاء فرحتهم بالرهان على فوز بايدن، وقد فضحت كلمات الرئيس الإيراني حسن روحاني هذا الرهان بشكل ضمني عندما قال إن بلاده قد أمضت أسوأ أيامها خلال فترة تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة الامريكية، فيما كانت تغريدة مستشار الرئيس الإيراني أقل دبلوماسية عندما قال «ثبت الإيرانيون بشجاعة حتى رحل الجبان»! وكانت صحيفة صداي إصلاحات الإيرانية الإصلاحية أكثر صراحة عندما وصفت فوز بايدن بالقول: «الامل عاد لإيران».
العراق الذي لم يكن حاضرا في سياق الحملة الانتخابية الامريكية الأخيرة لأول مرة منذ 16 عاما، كان حاضرا بقوة في سياق الصراع الأمريكي ـ الإيراني المستحدث، وسيكون حاضرا بالضرورة في أي تطورات قادمة في هذا الملف، وكما توقعنا، وأشرنا الى ذلك في مقالة سابقة، فان الطلقة الأولى بين الطرفين كانت في العراق، وقد أطاحت الرسائل المسلحة بين الطرفين الأمريكي (رسائل الدرونز ثم القصف المباشر واغتيال سليماني ـ المهندس) والإيراني (عبر وكلائها بشكل رئيسي وعبر تدخلها المباشر في قصف قاعدة عين الأسد) بأي إمكانية للدولة العراقية في تحديد طبيعة ومدى هذا الصراع، وهو ما أثبتته رشقة الصواريخ الأخيرة على السفارة الأمريكية مساء الثلاثاء الماضي، والتي انهت هدنة غير معلنة أدارتها بعثة الأمم المتحدة في العراق «يونامي» بشكل غير مباشر. ولم تكن هناك أية إشارة في حملة الرئيس المنتخب إلى طبيعة السياسة التي ستعتمدها إدارته في الملف العراقي. على الرغم من ان الرجل كان فاعلا في السياسة التي اعتمدتها إدارة الرئيس أوباما، بصفته نائبا للرئيس، والتي انجزت الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق في نهاية العام 2011، ولكنها اضطرتها إلى العودة اليه في سياق الحرب على تنظيم الدولة/ داعش في سبتمبر/ أيلول 2014، من دون إطار واضح لطبيعة هذا الحضور، او مستقبله.
كان الرهان الإيراني يقوم على خسارة الرئيس ترامب حملته الانتخابية لولاية ثانية، وبالتالي إمكانية الذهاب إلى مفاوضات ماراثونية ثانية مع إدارة ديمقراطية جديدة أقل تشددا
إن مراجعة تقارير استراتيجيات الامن القومي الأمريكي للأعوام 2010 ـ 2014 و 2014 ـ 2017، و2017 ـ 2021 سيجد ان العراق لم يعد يحضر فيها إلا بصفته «دولة فاشلة» تشكل «خطرا محتملا» ويجب عدم السماح بتحوله إلى ملاذ آمن للجماعات الجهادية! أو في سياق المواجهة مع إيران كما في التقرير الأخير، الذي أشار صراحة إلى أن الولايات المتحدة ستعمد إلى الاحتفاظ بوجودها العسكري في المنطقة «لحماية الولايات المتحدة وحلفائها من الهجمات الإرهابية والحفاظ على توازن إقليمي ملائم بين القوى المختلفة». ومن الواضح ان إدارة بايدن ستبقى ملتزمة بذلك على المدى القصير والمتوسط على الأقل، أي الاحتفاظ بوجود عسكري محدود في العراق، بمعزل عن مواقف القوى الشيعية العراقية المعلنة تجاه ذلك، خاصة وان هذه المواقف ستعتمد على تطورات العلاقة الأمريكية ـ الإيرانية حصرا.
ظل الأمريكيون، منذ العام 2003، يديرون لعبة مزدوجة مع إيران في العراق، فقد اقتنعوا تماما، بأن الفاعلين السياسيين الشيعة، لهم علاقاتهم الاستراتيجية والعقائدية مع إيران، وهي علاقات لا يمكن المساس بها، لهذا كانت هناك سياسة براغماتية أمريكية للقبول بشراكة إيرانية حقيقية على الأرض، من دون الاعتراف العلني بذلك، ولم يتغير الأمر مع إدارة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، فعلى الرغم من الخطاب التصعيدي ضد إيران، وصولا إلى إعلان عقوبات أحادية ضدها، إلا ان الولايات المتحدة قبلت، مضطرة، بالشراكة الإيرانية في العراق، واضطرت لاستثناء العراق من العقوبات الأحادية تجاه إيران، وغضت الطرف عن ميزان تجاري بين البلدين وصل إلى حدود 8 مليارات دولار سنويا، فضلا السماح الدوري لاستيراد الغاز والكهرباء، وبالتالي قبلت بان يكون العراق المورد الثاني للعملة الصعبة لإيران! وكل المؤشرات تؤكد أن هذه اللعبة المزدوجة ستبقى قائمة في ظل الإدارة الجديدة للبيت الأبيض، خاصة في سياق المفاوضات الماراثونية المنتظرة، وأيضا في حالة التوصل إلى اتفاق.
لقد أثبتت الوقائع المتتالية ان الفاعلين السياسيين الشيعة الأكثر راديكالية في علاقتهم بالولايات المتحدة الامريكية؛ سواء لأسباب أيديولوجية بحت، كما في حالة التيار الصدري (كان شعار كلا كلا أمريكا كلا كلا إسرائيل أحد رموز هذا التيار عند نشأته في تسعينيات القرن الماضي) أو لأسباب ترتبط بالموقف الإيراني كما في حالة تحالف الفتح ودولة القانون، يقبلون براغماتيا بتعاون عسكري، بسبب الحاجة الماسة اليه، ويقبلون أيضا ببعض الاستثمارات الأمريكية في مجال الطاقة، على أن يكون ذلك مرهونا بعلاقات أمريكية ـ إيرانية طبيعية في حدها الادنى من جهة، وعلى أن لا يتقاطع هذا الحضور العسكري والاستثمار مع المصالح الإيرانية، تحديدا فيما يتعلق بالغاز. وقد كان اختيار هؤلاء السيد مصطفى الكاظمي، المحسوب على الجناح الأمريكي، رئيسا للحكومة، رسالة عملية صريحة بأنهم، ومن خلفهم إيران، يقبلون بدور امريكي في العراق، على ان يكون ذلك مشروطا بالقبول بالتغول الإيراني فيه، وهو ما يؤكد ان حكومة الكاظمي ستبقى ما دامت هناك مفاوضات أمريكية ـ إيرانية جارية. ولكن مرة أخرى من من دون أدنى انتباه إلى ما يمكن ان تنتجه هذا الشراكة البراغماتية من تبعات على الأرض، خاصة التغاضي عن احتكار الفاعل السياسي الشيعي للقرار السياسي في العراق، وهو ما سيجعل فكرة الاستقرار مجرد خرافة!
يحيى الكبيسي
القدس العربي