عبْر العراق، الجبهة المفضلة لنظام المرشد الإيراني الأعلى، صوّبت طهران نحو واشنطن بشكل استباقي، في ما قد يكون تحذيراً إلى الإدارة الأميركية من أي تحرك عنيف يفكر فيه الرئيس دونالد ترمب.
ويرجح مراقبون أن يكون السبب الرئيس خلف الهجمات الصاروخية الأخيرة في بغداد، التقارير التي تحدثت عن بحث ترمب مع مستشارين عسكريين شن هجمات على إيران، الأمر الذي يعطي انطباعاً بأن عمليات القصف كانت بمثابة رسالة تحذير إلى الإدارة الأميركية.
وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” نقلت تسريبات عن اجتماع جمع ترمب مع مستشارين عسكريين لبحث إمكان توجيه ضربات عسكرية لمواقع نووية في إيران.
احتمالات كسر الهدنة
وأعادت تلك العملية فتح باب التساؤلات عن مستقبل الهدنة المرتبطة بقصف السفارة الأميركية في بغداد، واحتمالية كسرها، وعلى الرغم من إعلان الفصائل الرئيسة تبرؤها من الاستهداف، إلا أن مراقبين يرون أنها “محاولة غير مقنعة”.
وتبنت حركة “أصحاب الكهف” والتي تمثل أحد “فصائل الظل”، الهجوم الأخير، مبينة أنه جاء رداً على اعتقال ثلاثة من عناصرها في الفلوجة بعملية عراقية – أميركية مشتركة، بحسب منصات مقربة من الفصائل المسلحة.
وخلال الساعات الأولى للهجوم، استمرت منصّات إعلامية مقربة من الفصائل بإطلاق تأكيدات حول إصابة الصواريخ “قاعدة التوحيد” في السفارة الأميركية، متوعدة باستمرار الهجمات في إطار الثأر لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ورئيس أركان هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، اللذان قتلا في غارة أميركية مطلع العام الحالي.
وبعد إعلان خلية الأزمة الأمنية أن الهجمات الصاروخية أسفرت عن “استشهاد طفلة وإصابة خمسة أشخاص جميعهم مدنيون”، تراجعت وتيرة التصعيد في تلك المنصات حتى توقفت، بعد أن نشر بيان منسوب لـ “كتائب حزب الله” قالت فيه، إن “عملية القصف على سفارة الشر لا تخلو من أمرين، إما الجهل والغباء حد الثمالة، أو العمالة لترمب وفريقه”.
في غضون ذلك، أكدت وزارة الدفاع الأميركية أنها بصدد خفض عدد جنودها في العراق وأفغانستان بحلول منتصف شهر يناير (كانون الثاني) المقبل.
وقال وزير الدفاع بالوكالة كريستوفر ميلر، إن 500 جندي أميركي سيغادرون العراق ليبقى 2500 جندي، ما يمثل أقل عدد للقوات الأميركية منذ 2003.
في المقابل، أكد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي التزامه بإعادة جدولة انسحاب القوات الأميركية من العراق، فيما أعلن أن حكومته تتباحث مع الجانب الأميركي بشكل يومي في إطار لجنة الحوار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، لتنفيذ جدولة الانسحاب العسكري الأميركي.
وكانت الفصائل المسلحة أعلنت في 11 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إيقاف الهجمات على القوات والمصالح الأجنبية في العراق، إذ أشارت في بيان إلى إعطاء “القوات الأجنبية فرصة مشروطة، احتراماً للجهود الطيبة التي قامت بها بعض الشخصيات الوطنية والسياسية، بوضع جدول زمني محدود ومحدد لتنفيذ قرار الشعب، ومجلس النواب والحكومة القاضي بإخراجها من البلاد”.
أوامر إيرانية مباشرة
وتضيف تلك الهجمات مزيداً من الغموض على مستقبل المشهد العراقي، في ظل تباين الآراء حول احتمال شن واشنطن هجمات على إيران وأذرعها في العراق، في حين يؤكد مراقبون أن “رسائل البراءة الفصائلية” تعد دليلاً واضحاً على رغبتهم باستمرار الهدنة.
ويعتقد رئيس مركز كلواذا للدراسات، باسل حسين، أنه على الرغم من تبني إحدى “فصائل الظل” الهجوم الأخير، ومحاولة الفصائل الرئيسة إبعاد شبهة القصف عنها، إلا أن هذا النوع من العمليات لا يمكن أن يحدث من دون “أوامر إيرانية مباشرة”.
ويرجح حسين أن يمثل هذا الاستهداف إرسال رسائل “تهديد رداً على الأخبار المتواترة في شأن نية إدارة ترمب ضرب مواقع إيرانية أو تابعة لميليشيات موالية لها في العراق، لا سيما أن إيران ترى في الساحة العراقية المكان الأمثل لإرسال رسائل التهديد أو التهدئة، من دون النظر إلى المصالح العراقية”.
ويشير إلى أنه بالرغم من هدف العملية الواضح إلا أنها تضمنت أيضاً “إرسال رسالة أخرى بعدم رغبة الميليشيات بتصعيد أكبر، وهذا ما اتضح جلياً من خلال تسارع قادة الميليشيات على التبرؤ من الهجوم وانتقاده”، مبيناً أن تلك الانتقادات تمثل إشارة واضحة على أن “الهدنة مستمرة”.
براءة غير مقنعة
وعلى الرغم من إعلان عدد من الفصائل الرئيسة البراءة من العملية، وبينها “كتائب حزب الله” و”عصائب أهل الحق”، إلا أن مراقبين رأوا أنه “غير كاف لإقناع واشنطن وحتى الرأي العام العراقي”، مرجحين أن تمثل العملية “نهاية الهدنة”.
ويعتقد الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي، أن إعلان الفصائل الموالية لإيران البراءة من القصف الأخير غير كاف في إقناع الولايات المتحدة أو الرأي العام العراقي، مرجحاً أن يكون هذا القصف إعلاناً صريحاً لـ “نهاية الهدنة” بين الطرفين.
ويرجح أن تقوم واشنطن بـ “عمل عسكري وشيك، لأنها باتت تدرك عدم جدوى العقوبات الاقتصادية على إيران”، مبيناً أن إدراك الفصائل المسلحة لهذا الأمر دفعها لـ “توجيه رسائل إلى واشنطن من خلال القصف الصاروخي، بأنها قادرة على استخدام استراتيجيات عدة للردع”.
ويضيف، “الفصائل المسلحة تعتقد أن العائق الوحيد أمام توسيع نفوذها على البلاد هو الوجود الأميركي، بخاصة مع تشكيلها منظومة تحالفات تمتد في عدة مدن سنية وكردية”.
ولعل هذا الأمر، بحسب الشريفي، “رفع منسوب المخاوف الشعبية من أن يتسبب الانسحاب الأميركي بإحكام سيطرة طهران على العراق، فضلاً عن جعل البلاد ساحة للتوازنات الإقليمية”.
ويشير الشريفي إلى أن امتلاك الأذرع المسلحة الرئيسة دوراً سياسياً كبيراً هو ما دفعها إلى “السعي بشكل مكثف لإبعاد شبهات القصف عنها من خلال إعلان البراءة الدائم”. مردفاً، “سياسة تغيير العناوين التي تنتهجها تلك الفصائل باتت مكشوفة وغير مقنعة لواشنطن أو الرأي العام العراقي، لأن امتداد فصائل الظل واضح للجميع”.
سيناريوهات الرد الأميركي
من جهة ثانية، أعاد القصف الأخير الحديث حول احتمال إغلاق واشنطن سفارتها في العراق، والتي كانت قد لوحت مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي باحتمال إغلاقها في حال استمرار الهجمات الصاروخية، في حين يبقى هذا الأمر مرهوناً بمدى قدرة الحكومة العراقية إحكام سيطرتها على الأمن في البلاد، والذي لا تبدو بوادره متحققة حتى الآن.
في السياق، يعتقد رئيس مركز التفكير السياسي، إحسان الشمري، أن “الإرباك الذي تشهده واشنطن نتيجة أزمة الانتخابات الرئاسية في الفترة الأخيرة، ربما يفتح الباب أمام سيناريوهات عدة للرد على القصف الأخير، من بينها إغلاق السفارة الأميركية في بغداد”، مبيناً أن هذا الأمر مرهون بـ “قدرة الحكومة العراقية على احتواء هذا النوع من الأنشطة التي تستهدف المصالح الأميركية”.
ويوضح الشمري أن إعلان البراءة من قبل “كتائب حزب الله” وفصائل أخرى رئيسة، يعطي انطباعاً أن ما جرى لا يعني “خرقاً كاملاً للهدنة”، خصوصاً مع ربط العملية باعتقال عناصر لفصيل “أصحاب الكهف” في مدينة الفلوجة.
وعلى الرغم من إعلان الفصائل الرئيسة براءتها من العملية، إلا أن الشمري لا يستبعد أن يكون القصف الأخير “جزءاً من استراتيجية الضغط” التي تستخدمها الأذرع المسلحة، للتوصل إلى تفاهمات في كثير من القضايا المرتبطة بالصراع الأميركي – الإيراني.
أحمد السهيل
اندبدنت عربي