ترتدي التوصيات التي رفعها، أخيراً، مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة أهمية بالغة، ومن شأنها أن تضيف جديداً ونوعياً على المساعي الدولية للتوصل إلى حل سياسي. فلأول مرة، ينجح جهد للأمم المتحدة في وضع خطة تفصيلية للحل، تستند إلى مرجعية جنيف1، وإلى الحاجة لوضع حد للمحنة السورية المتطاولة.
جاءت توصيات دي ميستورا ثمرة جهد موصول بذله الرجل، تواصل فيه مع مختلف الفرقاء الداخليين والإقليميين والدوليين، وقد بدأه بخطة متواضعة لوقف إطلاق النار في ثاني المدن السورية حلب، من أجل فتح الطريق لوصول مساعدات إنسانية، وتمكين من غادروا بيوتهم من العودة. كانت الخطة على درجة من التواضع، إلى درجة لم تقترب معها أطراف النزاع لقبول الخطة أو رفضها. وقد استشعر الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، ضآلة الفرص أمام تطبيق الخطة، وكذلك محدودية الآفاق السياسية والأمنية التي تفتحها، فعهد إلى مبعوثه بوضع خطة بديلة ذات منحى ومحتوى سياسين شاملين.
تجيء الخطة التي أوصى بها دي ميستورا حصيلة مواقف مختلف الفرقاء الفاعلين في الداخل والخارج، وتثبيتاً لمضمون جنيف في يونيو/حزيران 2012. وهي توصي، وفق ما تم نشره، بتشكيل لجان عمل من الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني، تبدأ عملها مع منتصف أكتوبر/تشرين أول المقبل فترة ثلاثة أشهر، وتهدف إلى وضع خطة انتقالية لوقف إطلاق النار، وإدماج القوات المقاتلة، عدا المصنفة إرهابية، وإصلاح القطاع الأمني، وتشكيل هيئة حكم انتقالية. هذا هو المدخل الذي يضعه الرجل، وقد تفادى وضع جداول زمنية، باستثناء ما يتعلق بعمل المجموعات الأربع، المتعلقة بالسلامة والحماية ومكافحة الإرهاب والقضايا السياسية والقانونية وإعادة الإعمار، على أن يكون للمبعوث الأممي حق اختيار أعضاء اللجان من بين الأسماء التي تقترحها المعارضة والحكومة والمجتمع المدني.
إلى هذا المدخل، فإن الخطة لا تخلو من طموح، فهي تتضمن تشكيل ثلاث هيئات، الأولى هيئة الحكم الانتقالية ذات الصلاحيات الكاملة، بما فيها الصلاحيات العسكرية الأمنية، ومجلس عسكري مشترك، يضم ممثلين عن المعارضة والحكومة، بعد إقصاء 120 مسؤولاً “لدورهم في الصراع”، ثم تشكيل مؤتمر وطني سوري، يشكل مرجعية دستورية مؤقتة، وصولاً إلى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية برعاية الأمم المتحدة.
هذه أوضح خطة دولية حتى الآن في التعاطي مع الأزمة السورية، وأشدها تماساً مع الواقع، وأكثرها استبصاراً للمداخل والمخارج، بما يتناسب مع طموحات السوريين مع الحرص على مؤسسات الدولة، ورؤية نهاية للمحنة، وكان جديد مظاهرها المرعبة تدفق موجات المهاجرين السوريين عبر البحار وفي الشاحنات على الحدود البرية بين دول أوروبا، من دون أن يطرح أحد بصوت مسموع: لماذا يهاجر هؤلاء المظلومون بهذه الأعداد الكثيفة، من الذي يقتلعهم من بيوتهم وديارهم؟ ومن يغلق أمامهم أبواب العودة إلى وطنهم؟ علماً أن تمتيع الشعوب بالسلام والأمن هي المهمة الجوهرية للأمم المتحدة.
تفتح خطة دي ميستورا أفقاً ملموساً للحل، وتمثل خريطة طريق أولية وأساسية، وفيما تنشط في هذه الآونة مساع لحلول سياسية، كالتي تقوم بها موسكو، فإن الخطة تمتحن إرادة المنادين بالحلول السياسية، وتختبر نياتهم ومدى جديتهم. بعدما نجح دي ميستورا في قراءة ملفات الأزمة المتشعبة، وعاين المحنة على الأرض في زيارات متكررة لسورية، وقرأ جيداً، كما يبدو، نتائج جهود المبعوثين الأمميين السابقين، كوفي عنان والأخضر الابراهيمي، فجاءت خطته على درجة ملحوظة من التماسك والشمول.
وبينما توحي مواقف الدبلوماسية الروسية، وبدرجة أقل الدبلوماسية الأميركية، أن طريق الحلول هو أقرب إلى متاهة، مثل حيرة موسكو بين موسكو3 وجنيف 3، وتعيين مبعوث أميركي جديد، هو مايكل راتني، إلى سورية، من دون أن يكون مزوداً بأية رؤية معلنة للحلول. في هذا الوقت، جاءت خطة دي ميستورا لتضع النقاط على الحروف، عبر توصيات تفصيلية، على درجة من الطموح، وعلى درجة أكبر من الواقعية.
سيرحب بالخطة من يرحب بها، وإن مع ملاحظات، ممن يهولهم استمرار المحنة، وممن يستشعرون مسؤولية منح الأمل للسوريين، وضرورة بناء سورية جديدة مع الحفاظ على مؤسسات الدولة ومرافقها، وسوف يرفص هذه الخطة من يعمد إلى ذلك بالعلن، كإيران أو فصائل جهادية، أو بالصمت كي يتحمل آخرون وزر الرفض، إلا أن التحدي الأساسي يكمن في روسيا، العضو في مجلس الأمن، ومزوّد النظام بالأسلحة الفتاكة بغير قيد على استخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين والمرافق المدنية، والناشطة منذ أشهر على سكة اجتراح الحلول السياسية. فأمام مثل هذه الخطة التفصيلية والواقعية، لن تكون موسكو في وضع يسمح لها برفضها، نظراً لإلحاحها اللفظي على الحلول السياسية، هذا مع استبعاد قبولها الخطة أيضاً، والاكتفاء بالتقليل من أهميتها أو اعتبارها مجرد اقتراحات بين اقتراحات أخرى، واشتراط أن يوافق عليها جميع الفرقاء أولاً. هناك أساليب شتى للتنصل ولضمان حرمان السوريين من فرصة أمل.
غير أن المحك هو في تعاطي الأطراف السورية المعارضة، الديمقراطية والمدنية، مع الخطة. ابتداء من “الائتلاف” مروراً بهيئة التنسيق، وصولاً إلى منظمات المجتمع المدني. إذ أن دعم هذه الأطراف الخطة مع الاحتفاظ بما قد تراه من ملاحظات، هو الأساس في منحها فرصة الانطلاق. هذا مع الإقرار بصعوبة التجسير بين المستويات العسكرية والسياسية، والتحدي الأبعد هو داعش المتوحشة والمنفلتة، وكل من يصعب عليه إيقاف إطلاق النار.
وتلي ذلك في الأهمية المواقف المنتظرة من المجموعة الإقليمية والدولية “أصدقاء سورية” التي تراخت جهودها، وخفتت أصواتها، في الأشهر الأخيرة. يمثل طرح هذه الخطة الدولية فرصة لهذه المجموعة، لكي تبرهن على جديتها التامة في تبني الحلول السياسية وعلى نزعتها الواقعية، وعلى استعدادها لمعاودة العمل بنشاط من أجل وضع حد للأزمة الرهيبة.
محمود الريماوي
صحيفة العربي الجديد