عندما يتولى جو بايدن منصبه كرئيس للولايات المتحدة في أواخر كانون الثاني/يناير، لن تكون أكثر التحديات تعقيداً التي سيرثها على صعيد السياسة الخارجية من ابتكار سلفه. فبالفعل، إن مشكلة العلاقات الأمريكية-التركية وضعت الإدارات الأمريكية من كلا الحزبين في وضع صعب خلال العقدين الماضيين.
فمن رفض أنقرة السماح للقوات الأمريكية بعبور الحدود التركية-العراقية في عام 2003، إلى الخلافات الثنائية الحادة حول السياسة تجاه سوريا خلال إدارة أوباما، إلى اقتناء تركيا مؤخراً أنظمة الدفاع الجوي الروسية على الرغم من عضويتها في حلف “الناتو”، سببت العلاقة الأمريكية-التركية الصداع لسلسلة طويلة من الرؤساء الأمريكيين.
ومع ذلك، فإن التهديدات المطوّلة في المنطقة والمخاطر المتزايدة في مختلف أنحاء العالم تؤكد استمرار قيمة التعاون الأمريكي التركي لكلا البلدين، وتسلط الضوء على أهمية سعي إدارة بايدن لإنقاذ العلاقة من التدهور الحاد، والذي ازداد عمقاً خلال فترة رئاسة دونالد ترامب بسبب الخلافات حول توغل تركيا في شمال شرق سوريا ومعارضتها لاتفاقيات التطبيع العربي مع إسرائيل.
وتركيا، التي تربط بين أوروبا وآسيا، تجد نفسها أيضاً عند طرفَي التغيير الكبير الحاصل في السياسة الخارجية الأمريكية. وتنتقل إستراتيجية الولايات المتحدة بحذر بعيداً عن التركيز على مكافحة الإرهاب والجهات الفاعلة غير الحكومية وإلى التركيز على منافسة القوى العظمى، لا سيما مع روسيا والصين. واصطدمت واشنطن وأنقرة على الجبهتين في عهد الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب، حيث اختلفتا حول كيفية مكافحة الإرهاب في سوريا، على سبيل المثال، وحول كيفية إدارة العلاقات مع موسكو أيضاً.
وقد لا تؤذن جائحة الفيروس التاجي بدخول عالم جديد، لكنها سرّعت العملية الانتقالية في النظام العالمي. وقد فاقمت هذه الأزمة التوترات بين الولايات المتحدة والصين وأظهرت للعديد من الدول مخاطر اعتماد سلاسل الإمدادات إلى حدّ كبير على بكين. وفي حين أن التحوّل الناتج في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في شرق آسيا واضح للعيان، إلّا أن آثاره على الاستراتيجية الأمريكية في مناطق أخرى لم تكن واضحة.
وفي الشرق الأوسط، الذي كان المحور الرئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية خلال العقود الأولى من هذا القرن، من غير الواضح ما إذا كانت واشنطن تنوي تنفيذ الاستراتيجية نفسها – أي الدفاع عن مجموعة كبيرة من المصالح الأمريكية، وخاصة مكافحة الإرهاب، من خلال التدخل المباشر ودعم كبير للحلفاء – بموارد أقل، أو صياغة إستراتيجية إقليمية جديدة. فمن شأن هذه الاستراتيجية الجديدة النظر بحذر إلى قضايا الشرق الأوسط من خلال عدسة المنافسة بين القوى العظمى – وسط الحفاظ على علاقات وثيقة مع القوى المتوسطة الحجم في المنطقة ومنع تجاوزات موسكو وبكين حتى على حساب مخاوف أخرى مثل الإرهاب، كما تنبأت استراتيجية الدفاع الوطني لإدارة ترامب.
والجواب المحتمل هو قليلاً من الإثنين. ونظراً إلى الحاجة إلى تحويل الموارد نحو آسيا، ستسعى الحكومة الأمريكية بشكل متزايد إلى تفويض شركائها الإقليميين بحماية المصالح المشتركة. ومع ذلك، ستسعى أيضاً إلى تجنيد هؤلاء الشركاء في جهد أوسع لدعم نظام ومعايير عالمية ضد التحديات الجريئة المتزايدة من المنافسين من القوى العظمى.
وسيكون الدور الذي تختار تركيا أن تلعبه مهماً في أي إعادة صياغة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط – سواء لعبت هذا الدور بصورة أفضل أو أسوأ. فهي صاحبة أكبر اقتصاد في المنطقة، حيث يبلغ “ناتجها المحلي الإجمالي” 750 مليار دولار.
وقد أثبتت تركيا – بما يثير امتعاض واشنطن في كثير من الأحيان هذه الأيام – استعدادها لاستخدام القوة الخشنة للتأثير على ديناميكيات المنطقة. فهي تتشارك في الحدود مع إيران والعراق وسوريا، وتتجاور مع روسيا عبر البحر الأسود. لذلك فإن تركيا هي محطة منطقية على “شبكة الحزام والطريق” الخاصة بالصين. وهي في وضع يخّولها – سواء جغرافياً أو سياسياً – التأثير على استعراض روسيا لقوتها جنوباً أو على جبروت الصين غرباً.
ومع ذلك، فإن ما جعل تركيا شريكاً مهماً للولايات المتحدة لفترة طويلة قد جذب انتباه روسيا والصين أيضاً. وبالفعل، بالنسبة لأي جهة فاعلة خارجية، من شأن تعاون أنقرة أن يحسّن بشكل ملحوظ قدرتها على تحقيق أهداف السياسة التي وضعتها في الشرق الأوسط. وبالنسبة لموسكو وبكين، توفّر فرصة استغلال الخلافات الحالية بين أنقرة وواشنطن لتعميق الفجوة المتزايدة داخل حلف “الناتو” جاذبية إضافية. وأحدث مثال على ذلك هو المواجهة بين تركيا واليونان حول الوقود الأحفوري في شرق البحر الأبيض المتوسط، والتي أدت إلى حدوث انقسام بين أعضاء “الناتو”، بل وعرقلت جهود “الاتحاد الأوروبي” للتوصل إلى إجماع حول قضايا غير ذات صلة مثل بيلاروسيا.
ومؤخراً، كان الانجذاب متبادلاً. فبعد أن كادت تركيا تنجز صفقة للحصول على نظام رادار صيني، استلمت نظام الدفاع الجوي الروسي “أس-400” وشرعت في اختباره على الرغم من اعتراضات واشنطن، مما أثار مخاوف حادة بين جميع دول “حلف شمال الأطلسي” وتهديد حقيقي بفرض عقوبات من قبل واشنطن. ومع احتمال حدوث انكماش اقتصادي وتزايد الصعوبات في الحصول على التمويل الخارجي، تريد أنقرة جذب المزيد من الاستثمارات والتمويل الصيني.
وحتى الآن تبين أن هذا الهدف صعب التحقيق: فحصة بكين من الاستثمارات الأجنبية المباشرة قي تركيا تشكّل نسبة ضئيلة تبلغ 1 في المائة، كما لم تكن هناك سوى 960 شركة صينية من أصل 61449 شركة برأسمال أجنبي مسجل في تركيا في عام 2018. ومع ذلك، ظلت أنقرة تأمل في أن تجلب لها “مبادرة الحزام والطريق” الصينية مزيداً من رأس المال – خاصة وأن تركيا تواجه أزمة اقتصادية وسياحية متزايدة نتيجة للوباء – ولم تُظهر أي استعداد للانتباه لتحذيرات واشنطن من اعتماد تكنولوجيا الجيل الخامس من شركة “هاواوي” على سبيل المثال.
ومع ذلك، على أنقرة أن تدرك أن أي علاقة بين تركيا والصين أو روسيا لها حدودها. فسياسة الصين القمعية تجاه الأقلية التي تقطنها من شعب الإيغور – الذين يتشاركون الروابط الثقافية واللغوية مع الجماعات العرقية التركية الأخرى – لا تزال تقوّض الروابط بين الدولتين. وفي غضون ذلك، لا تزال تركيا وروسيا على خلاف حول قضايا إقليمية مثل سوريا وليبيا وأرمينيا، وهما منقسمتان بسبب انعدام الثقة الذي دام قروناً بشأن الجهود الروسية لتوسيع غلافها الأمني جنوباً.
وحتى في إطار اتفاق السلام الأخير الذي توسطت فيه روسيا بشأن ناغورنو-كاراباخ، اختلفت موسكو وأنقرة حول قضية قوات حفظ السلام التركية. ولا يمكن لروسيا أو الصين تقديم المزايا الأمنية أو الاقتصادية التي حصلت عليها أنقرة جراء انخراطها الكبير مع الغرب على مر العقود – وهو اختلال توازن من المرجح أن تبرزه الجهود الصينية لاستغلال المساعدة في مجال الصحة العامة وتحويلها إلى خدمات دبلوماسية في أعقاب جائحة فيروس كورونا.
لكن هذا لا يعني أن العودة إلى الوضع السابق للشراكة الأمريكية التركية أمر ممكن. فالسياسات التركية على غرار اختبار نظام “أس-400” والتصريحات الحادة من قادة تركيا بشأن أمور مثل التطبيع مع إسرائيل دفعت واشنطن إلى التشكيك جدياً بمستقبل العلاقات مع أنقرة.
كما أدّت هذه الخطوات إلى زيادة التوترات بين تركيا وشركاء آخرين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخاصة الإمارات والسعودية، اللتين تختلفان بشدة مع أنقرة، على المستوى الخطابي وعلى الأرض أيضاً حول نزاعات إقليمية مختلفة. ويضاف إلى هذه الديناميكية واقع أن إعادة صياغة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط قد غيّرت حسابات شركائها في المنطقة؛ وبدلاً من الاستمرار في انتظار قيام الحكومة الأمريكية بصياغة استراتيجية إقليمية جديدة، يبدو أن الشركاء الأقوى للولايات المتحدة يتصرفون بشكل متزايد بمبادرتهم الخاصة، وغالباً ما يكونون على خلاف مع بعضهم البعض – على سبيل المثال، تدعم تركيا والإمارات طرفين متناحرين في الحرب الأهلية الليبية في مواجهة الولايات المتحدة ذات الحضور الخجول وأوروبا المنقسمة. وقد يساعد انخراط الولايات المتحدة بشكل أكبر على تخفيف التوترات العربية-التركية وفتح قنوات للتواصل، لكن من غير المرجح أن يتغير النمط الأساسي السائد.
وعلى الرغم من جميع المشاكل التي تقوّض العلاقات بينهما، سيكون التعاون أفضل من الخصومة لضمان المصالح الأمريكية والتركية. وكما أن الحنين إلى التحالف الأمريكي-التركي الماضي سيكون مضللاً، كذلك الافتراض أن البديل الوحيد هو العداء. ورغم كل الخلافات الخطيرة التي تفرّق بينهما، يتشارك الأمريكيون والأتراك مصلحة في الحد من النفوذ الروسي في المنطقة، ومواجهة المغامرات الإيرانية، ومنع انتشار الأسلحة النووية والصاروخية.
ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أنه في المستقبل المنظور، حتى لو أمكن استقرار العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا، ستكون هذه أكثر تعاملية مما كانت عليه في الماضي. وسيتطلب ذلك استعداداً أكبر مما هو قائم حالياً لتحديد الأولويات، والعمل على التسويات بهدوء، والتشاور مبكراً لمنع نشوء خلافات، ومنع تحوّل كل خلاف إلى تهديد وجودي للعلاقة.
وخلال السنوات التي قضاها بايدن كعضو في مجلس الشيوخ الأمريكي ونائب الرئيس [أوباما]، اكتسب سمعة طيبة في العمل على التوصل إلى تسويات وراء الكواليس. وقد لا تكون المشاورات السرية مقاربة معتادة بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان تجاه الغرب، ولكن انتخاب رئيس أمريكي ديمقراطي جديد قد يمنحه مجالاً كافياً للسعي إلى إقامة علاقة مجدية وأكثر ودية مع واشنطن من شأنها أن تخدم مصالح الولايات المتحدة وتركيا على حد سواء.