ترامب وبناء نظرية المؤامرة: هكذا تبقى الشعبوية

ترامب وبناء نظرية المؤامرة: هكذا تبقى الشعبوية

يلعب الرئيس دونالد ترامب، الخاسر وفق نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية، في سعيه للبقاء في البيت الأبيض ولايةً ثانية، لعبته المفضلة، ألا وهي تسويق نظرية المؤامرة، مراهناً على سجلّه الطويل في بثّ الأخبار الكاذبة لإقناع جمهوره. هذا الجمهور، ليس قليل العدد، والدليل تصويت أكثر من 70 مليون أميركي له في الاستحقاق الرئاسي، ولحاق الملايين بالرئيس الأميركي المثير للجدل على موقع “تويتر”. ومما لا شكّ فيه، أن نواةً صلبة داخل معسكر اليمين المتشدد، في الولايات المتحدة وخارجها، تؤيد ما يذهب إليه هذا الرجل، في معرض ردوده وتفسيراته لأمورٍ وأحداث كثيرة، آخرها خسارته التصويت لصالح المرشح الديمقراطي جو بايدن، والتي يردّها إلى نظرية المؤامرة ذاتها، واتهام وسائل الإعلام بالكذب. هذه الردود، لا تهدف فقط إلى التشكيك بالانتخابات، بل تؤسس لواقع محلي وعالمي، سيفضي إلى بقاء الترامبية كنهجٍ سياسي، يغرف منه ملايين المؤمنين بنظريات المؤامرة حول العالم، حتى بعد خسارة ترامب.

يراهن ترامب اليوم على سجلّه الطويل في بثّ الأخبار الكاذبة لإقناع جمهوره بـ”سرقة الانتخابات”

الحقائق البديلة

وليس تأثير دونالد ترامب على ملايين البشر، بإشاعة “نظرية المؤامرة” وتسويق نفسه كـ”ضحية لوسائل الإعلام”، بالأمر الجديد في سياقه الأميركي، والغربي عموماً. وفي حالة ترامب تحديداً، فإنه دخل منذ العام 2011، أي قبل ترشحه للرئاسة بسنوات، بتأييد اليمين المتطرف، على خطّ التشكيك بأحقية باراك أوباما في رئاسة الولايات المتحدة. وتشير الأرقام بوضوح، إلى مدى تأثير هذا الخطّ على العقول، هو المبني على طريقة جوزيف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في عهد الزعيم النازي أدولف هتلر. فقد أظهر استطلاع لمؤسسة “يوغوف”، نشرته مجلة “نيوزويك” الأميركية في العام 2017، أن نحو 51 في المائة من المستطلعة آراؤهم من الأميركيين المؤيدين للحزب الجمهوري، يصدقون أن أوباما لم يُولد حقاً في الولايات المتحدة، ووصلت نسبة الإيمان بذلك بين الديمقراطيين إلى 14 في المائة. وساهمت أيضاً حملة “بيرثر” (مكان الولادة) في ترسيخ نظرية المؤامرة، وبثّ الخداع بشأن مكان ولادة الرئيس الأميركي السابق، وأحقية منحه الجنسية الأميركية. وعلى الرغم من أن أوباما نشر وثيقة ولادته، بعد كلّ ما أثير من لغط حولها لتقويض مصداقية رئاسة أول أميركي من أصول أفريقية للبلاد، لا يزال ملايين الأميركيين يصدقون أضاليل ترامب، بناء على ما يسمى نظرية “الحقائق البديلة” و”كذب وسائل الإعلام”. وانطلقت نظرية “الحقائق البديلة”، رسمياً داخل إدارة ترامب، في يناير/كانون الأول 2017، عندما تحدثت مستشارته السابقة كيلاني كونواي عن حشود “ضخمة وغير مسبوقة”، شاركت في حفل تنصيبه في واشنطن. ومنذ أن أصبح الرجل رئيساً، قام وفقاً لما سجّلته صحيفة “واشنطن بوست” قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ببث 25 ألف كذبة وتضليل. وكان موقع “بزنس إنسايدر” قد وثّق قيام ترامب، قبيل توليه الرئاسة، بزرع بذور ادعاءاته حول المؤامرات، وهي البذور التي تتفتح اليوم براعمها بين أنصاره، على الرغم من أنها “مؤامرات مُتخيلة وغير حقيقية”، بحسب الموقع.

حربٌ على الإعلام

لم يتوقف تشكيك ترامب بالصحافة، وإطلاق صفة “الأخبار الكاذبة”، على كل ما لا يروق له مما تنشره ونشرته خلال السنوات الأربع الماضية. أما الهدف من ذلك، فهو تماماً الوصول إلى مشهد الاصطفاف، الذي ظهر جلياً إثر إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة، مع فوز المرشح الديمقراطي بايدن بالرئاسة، إذ يبدو أن جمهوراً أميركياً عريضاً مؤمنٌ بأن “الرئيس على حق”.

وليست قصة ترامب مع وسائل الإعلام جديدة، فقد رصدت وسائل إعلام أميركية، بينها شبكة “سي أن أن”، إطلاقه خلال السنة الأولى من ولايته، اتهامات يومية لها، بالكذب والتزوير. وباتت ملازمة لاسم ترامب، عباراتٌ لم يتوقف عن تردادها، على نسق “أخبار مزيفة”، و”استطلاعات مزيفة”، و”إعلام مزيف”، و”تقارير مزيفة”. واستطاع ترامب، في سنوات قليلة، إقناع جمهور عريض بأن “المؤامرة” أمر حقيقي، وأنّ عليهم ألا يثقوا بوسائل الإعلام، وهو قد مُنح فرصاً كثيرة لإشاعة مثل هذه النظرية، التي تولد اليوم سجالاً وشكوكاً حول نتائج الانتخابات.

الملفت في السياق الأميركي، أن السيناتور الجمهوري الراحل، جون ماكين، كان حذر مبكراً من خطورة ترامب، الرئيس الذي قال لمؤيديه إثر تنصيبه في البيت الأبيض في العام 2017، إن الصحافة “عدو الشعب”. فقد اعتبر ماكين أن الديكتاتورية تبدأ عادةً بمحاربة وسائل الإعلام والصحافة. تحذيرات ماكين المبكرة منذ العام 2016، وهو الذي كان قيادياً جمهورياً محبوباً، ومرشح الرئاسيات في العام 2008، قامت على إدراك لعقلية ترامب، وخطورة ادعاءاته بحق الصحافة ووسائل الإعلام بشكل عام، المحلية والدولية. ورداً على ذلك، استدعت هذه التحذيرات حملة تشكيك من ترامب ومن معسكره بالرجل، وصلت إلى حدّ التشكيك بمشاركة ماكين في حرب فيتنام ورواية أسره، ما أشار إلى استعداد الملياردير الجمهوري، للذهاب بعيداً في ترسيخ نظرية المؤامرة التي يقول إنها تستهدفه.

بقاء آل ترامب في المشهد

يحصد ترامب نتائج ما زرعه خلال العام الحالي، وربما قد يحصده في العام 2024، بعدما ذكرت تقارير أنه قد يترشح مجدداً بعد 4 سنوات لرئاسة أميركا. ومنذ أن بدأت تتكشف اتجاهات التصويت في الانتخابات الأخيرة، بدا واضحاً أن ترامب اختار الوقوف في منتصف دائرة نظرية المؤامرة، ليطلق النار على كل من لا يوافقه الرأي، كما حدث حتى مع قناته الإخبارية المفضلة، “فوكس نيوز”. وتلفت بعض وسائل الإعلام الأميركي، إلى أن التشكيك بفوز بايدن بأصوات “غير قانونية”، وإشاعة جوّ “سرقة الانتخابات”، ربما يهدفان إلى ترسيخ نهجٍ ترامبي، قد يكون تمهيداً لسعي أحد ممثلي “آل ترامب” للعودة إلى الحكم في 2024. ومن الواضح أن استراتيجية “آل ترامب”، التي يساهم فيها بشكل حثيث كلّ من نجلي الرئيس، دونالد ترامب جونيور وإيريك، وكذلك زوجة الأخير لارا، من خلال بثّ الرسائل الحماسية لمؤيدي الرئيس، بهدف جمع ملايين الدولارات لخوض المعركة القانونية المتعلقة بالطعن بنتائج الانتخابات التي أظهرت فوز جو بايدن، هي استراتيجية لا تستهدف جمع المال لعائلةٍ ثرية، بقدر ما تسعى إلى إقناع ملايين الأميركيين أن أصواتهم تمّت سرقتها من اليسار (الأميركي) المتطرف.

تحاول عائلة ترامب خلق انطباع عن بقاء “سلالة ترامب في الحكم”، عبر التبشير بمستقبلها لمصلحة دونالد ترامب جونيور

وأجج ترامب، الذي وضعت منصّة “تويتر” تنويهاً حول تغريداته “المضللة”، ويُطالب أنصاره بالسيطرة والرقابة على حرية الإعلام، عملية ضرب مصداقية هذا الإعلام، وساهم في ذلك أفرادٌ من أسرته، بثّوا وفقاً لتقارير، 30 مليون رسالة إلكترونية حول “سرقة الانتخابات”. ولم يستثن من هجوم ترامب، إعلام يميني ومحافظ، كـ”فوكس نيوز” وموقع “ذا هيل” وصحيفتي “وول ستريت جورنال” و”نيويورك بوست”، بعد اعترافها جميعها بفوز بايدن. ويبدو واضحاً اليوم، أن سياسة السنوات الماضية، من استهداف للإعلام، هي غير منفصلة عن السياسة، ما أنتج حالياً حالة إنكار لخسارة ترامب لدى عشرات ملايين المصوتين له. إذ إن وسائل إعلام أميركية ترصد منذ بعض الوقت، حتى قبل الانتخابات، مساعي عائلة ترامب، لخلق انطباع عن “سلالة ترامب في الحكم”، عبر التبشير بمستقبلها لمصلحة دونالد ترامب جونيور في انتخابات 2024. ذلك ربما يعتبر أحد تفسيرات إصرار نواة ترامب على افتعال مشهد صاخب يزيد من بثّ شكوك وإثارة جدل وبلبلة إعلامية وفي الشارع، حول “سرقة الأصوات”، بما يعني التمهيد لمشهد مستقبلي، ليس بالضرورة أن يكون دونالد ترامب متصدره، بل أحد أفراد أسرته، وهو أمر لم تستبعده مجلة “نيوزويك”، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

ما هي المؤامرة؟

لعل تجييش “آل ترامب” للشارع، وبعضه يدعو إلى “إلغاء الصحافة”، يستدعي النظر مليا في أسس ادعاء مؤامرة يشترك فيها الديمقراطيون. فترامب لم يخف إعجابه، منذ وقت مبكر، بجماعة “كيو أنون”، التي صنفها مكتب التحقيقات الفيدرالي “أف بي آي” باعتبارها مجموعة راديكالية خطيرة، وقام ترامب في مناسبات عدة بإعادة تغريد ما بثته الجماعة. ومنذ العام 2015، بدا الرجل راسخاً في تأييده لنظرية المؤامرة، حيث ظهر في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام عبر البرنامج التلفزيوني “إنفو وورز”، مع منظر نظرية المؤامرة، أليكس جونز، ليشيد بسمعة الأخير باعتباره “مذهلاً” وتعهد له بألا “يخذله” أبداً. وسلّط تقرير لـ”فوكس نيوز” في يناير/ كانون الثاني الماضي، الضوء على إيمان ترامب العميق بنظرية المؤامرة وسعيه لتعزيزها، واعتبار السياسيين المنافسين له “شياطين”، وهو ما يجد صداه لدى نسبة من مؤيديه من الطبقات الفقيرة وغير المتعلمة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن النواة الصلبة من مؤيدي ترامب تؤمن أن مؤامرة عالمية تحدث، للتغطية على “محاربة الرئيس (ترامب) لعصابات استغلال الأطفال جنسياً”. ووفق اعتقادهم، فإن هذه المؤامرة تجري بمشاركة سياسيين ديمقراطيين، من بينهم هيلاري كلينتون وأوباما، وعموم اليسار الأوروبي.

بناء النظرية وتسويقها

من الملفت أن الحملة التي أُطلقت بعنوان “أوقفوا السرقة (للأصوات)”، وجدت من يروج لها أوروبياً، من طرف يمين شعبوي متطرف، كان أخذ جرعة دعم قوية إثر فوز ترامب بالرئاسة الأميركية قبل 4 سنوات، وكذلك من طرف حتى بعض العرب، المسوقين لنظريات غريبة جداً، منها اتهامات لأميركيين عرب بتزوير الانتخابات ومشاركة “الإسلام السياسي” في ذلك. وعزّزت السنوات الأربع الماضية من عمر الترامبية، خطاب اليمين الشعبوي المتطرف في الغرب عموماً، حتى بات الأخير، ومستشارون سابقون له، ملهمين لشعبويي أوروبا، للقيام بعمليات تضخيم انتهجها معسكرهم، وقلب للحقائق إلى “أخبار مضللة”، مع قلب الأخبار الكاذبة التي يطلقها ترامب وغيره إلى “حقائق”.

هذا الأمر يستفيد منه معسكر ترامبي يصعب إنكار وجوده، للتجييش المحلّي، وبثّ تشكيك عالمي أيضاً في مبادئ النظام الديمقراطي العالمي، ما تبدى بشكل خاص في تهكم مؤيدي أنظمة ديكتاتورية على الديمقراطية والحقوق.

على المقلب الآخر، يشعر سياسيون أميركيون وأوروبيون بقلق من مخاطر ترسيخ الترامبية في الديمقراطيات الغربية، ولعل إسراع العديد منهم إلى تهنئة جو بايدن، والإعراب عن تمنياتهم بعودة العلاقة على ضفتي الأطلسي إلى طبيعتها التحالفية السابقة لفترة ولاية ترامب في البيت الأبيض، يعكسان الخشية مما تثيره نظرية المؤامرة وخلق اصطفافات حادة في مجتمعاتهم، خصوصاً في ما يرتبط بنظرية “التفوق العرقي الأبيض”، التي يسوقها المتطرفون، بحجة مواجهة مؤامرة “الاستبدال (أو الإحلال) العظيم”. وتشكل هذه النظرية، بحسب قراءات سياسية وإعلامية أميركية، وغربية عموماً، أسس التطرف العرقي الأبيض وفكرة فرض “التفوق الأبيض”، وما يستتبعها من نشوء حالة تسلح و”تجهز”، بمجموعات متعددة تؤمن أن “الدولة لن تكون قادرة على تقديم الحماية”. وقد تأسست فعلاً مجموعات في الولايات المتحدة وأوروبا تحت مسمى “التجهز” للأيام التي ستدخل فيها المجتمعات الغربية في حروب عرقية، دفاعاً عن بقاء “العرق الأبيض”. ويتخذ بعض المحللين من النموذجين المجري والبولندي في التضييق على الإعلام والحريات، أمثلة، في مجاراة نمط ترامب، وهو ما كانت حذرت منه صحف أوروبية منذ سنوات.

يخطط ترامب لعقد لقاءات مع جمهوره، حتى بعد خسارته، ما يثير الخشية من اندلاع عنف وصدامات

وإضافة إلى التهنئة الأوروبية لبايدن، فقد سارعت أيضاً وجوه بارزة من المعسكر الجمهوري الأميركي، مثل الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، والمرشح الرئاسي السابق ميت رومني، والسيناتورة في مجلس الشيوخ ليزا موركوفسكي، لتهنئة المرشح الديمقراطي بفوزه، على أمل وقف خطاب التشكيك بالديمقراطية الأميركية، خصوصاً مع ورود تقارير عن عزم ترامب الذهاب إلى لقاءات جماهيرية مع مؤيديه. وتحدث موقع “أكسيوس” في تقرير له نشر يوم الأحد الماضي، عن مخططات لترامب لعقد مثل هذه اللقاءات، التي يخشى بعض الجمهوريين أن تؤدي إلى عنف وصدامات، مع استمرار أنصار الرئيس الخاسر بالتلويح بسلاح التشكيك بالنتائج، بوجه المعسكر المنافس. واستدعى ظهور مؤيدين لترامب شاهرين سلاحهم، الطرف الآخر للتحشيد أيضاً، ما يضفي شكوكاً على قدرة بايدن على إعادة توحيد الشعب الأميركي، وعلى العملية الديمقراطية بشكل عام.

بناء على كلّ ذلك، فإن معارضة نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية لم تأتِ من فراغ، بل قامت على فرضيات وتخمينات تعتبرها وسائل إعلام أميركية وأوروبية “مضطربة للغاية”، وتهدف إلى الدفع بقوة نحو أجندة سياسية محددة الأهداف، لتدعيم مواقع المؤمنين بجدية أن “العرق الأبيض يتعرض عملياً لمؤامرة”، ما يستدعي التسلح ونشوء سياسات متشددة للحد من تنفيذها. ولم يُطلق ترامب ومعسكر اليمين المتطرف، الحملة ضد حركة محاربة الفاشية، “أنتيفا”، من فراغ. لكن رفع متظاهرين محتفين بخسارة ترامب، شعارات “لا للفاشية”، يعني أيضاً أن أميركا تشهد متغيرات على صعيد وعي أجيال جديدة، مقابل نمو الشعبوية المتطرفة.

ناصر السهلي

العربي الجديد