بدلا من الانضمام إلى الكتلة الاقتصادية الإقليمية التي تشكلت مؤخرا، اختارت نيودلهي سياسة “الحمائية الاقتصادية” للتحكم في الواردات الخارجية، ولكن هل كان الانسحاب قرارا صائبا من حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي؟
في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركية، يقول الكاتبان سوروبا غوبتا وسوميت غانغولي إن الهند رفضت بعد مفاوضات مطولة أن تنضم إلى الاتفاق، الذي وقعته 15 دولة آسيوية في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، والذي تشكلت بموجبه أكبر كتلة تجارية في العالم.
وبمجرد دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ، ستعمل على تخفيض أو إلغاء التعريفات الجمركية المفروضة على مجموعة من السلع والخدمات، إلى جانب تحديد قواعد جديدة بشأن الاستثمار والمنافسة، وضمان حماية الملكية الفكرية.
لماذا انسحبت الهند من الاتفاقية؟
يرى خبراء ومحللون أن الهند كانت ستستفيد في واقع الأمر من الانضمام إلى هذه الاتفاقية الإقليمية الشاملة، حيث كانت ستوفر للشركات الهندية الفرصة للمشاركة في سلاسل القيمة العالمية، وتساعد الحكومة في جذب الاستثمارات الأجنبية، ناهيك عن فوائدها على المستهلكين من خلال توفير منتجات أقل كلفة وأعلى جودة.
ويؤكد الكاتبان أن تجارب الهند السابقة مع اتفاقيات التجارة الحرة تُظهر أن تلك الصفقات أدت إلى زيادة الصادرات إلى تايلند وكمبوديا وفيتنام وماليزيا والفلبين، بينما أدت واردات السلع الرخيصة والمنتجات الصناعية من دول مثل اليابان، إلى زيادة القدرة الإنتاجية للهند.
كما يرى عدد من المحللين، أن الانضمام إلى التكتل الجديد كان من شأنه أن يخلق المزيد من فرص العمل ويدعم النمو الاقتصادي، كما كان هناك العديد من العوامل السياسية التي تدعو الهند للانضمام إلى هذه الاتفاقية، مع إمكانية إعادة صياغة بعض بنودها مستقبلا، بينما سيؤدي رفض التوقيع -حسب الكاتبين- إلى عزل الهند، والحد من قدرتها على تطوير اقتصادها.
لكن موقف الهند لم يكن مفاجئا تماما، فعلى امتداد عقود، اتبعت نيودلهي مجموعة من السياسات الاقتصادية القائمة على سياسة “الحمائية”، جزءا من التزامها التاريخي بسياسة التصنيع لاستبدال الواردات.
ويقول الكاتبان إنه في أعقاب الأزمة المالية، التي ضربت البلاد عام 1991، قامت الحكومة تدريجيا بإلغاء مجموعة من الحواجز الجمركية المفروضة، وحققت نوعا من الاندماج في الاقتصاد العالمي خلال 30 عاما الماضية؛ إلا أنها ظلت تتبنى سياسة الحمائية في المفاوضات التجارية.
وهذا النهج بات أكثر وضوحا خلال فترة حكم رئيس الوزراء ناريندرا مودي، الذي ركز على إستراتيجية “صنع في الهند” في بداية ولايته.
وفي الآونة الأخيرة، حتى قبل أن تتسبب جائحة كورونا في أزمة عميقة في الاقتصاد الهندي، أعلنت الحكومة سياسة الاعتماد على الذات اقتصاديا، لتعزيز الصناعة المحلية.
ورغم أن الأبحاث الحكومية كشفت أن الهند استفادت عموما من الاتفاقيات التجارية، التي وقعتها في الماضي، فإن الخبراء لاحظوا أن الهند تعاني من ميزان تجاري سلبي مع العديد من الدول، التي وقعت على الاتفاقية التجارية الآسيوية الجديدة، وهو ما فسره البعض بتراجع التصنيع في الهند.
وفي هذا الشأن، صرح وزير الشؤون الخارجية الهندي، سوبرامنيام جاي شانكار، مؤخرا بأن الاتفاقيات التجارية أدت إلى تراجع التصنيع في بلاده، ورغم أنه لم يحدد القطاعات المعنية؛ إلا أن المنظمات التجارية الهندية أكدت أن صناعات مثل الإلكترونيات والتصنيع الخفيف قد عانت بسبب اتفاقيات التجارة الحرة.
ويرى الكاتبان أن منتقدي تلك الاتفاقيات يركزون على غياب أي ضمانات في اتفاقيات التجارة الحرة السابقة لحماية الإنتاج المحلي؛ مما سمح بتدفق غير منضبط للواردات الصينية، وبغض النظر عن إرث الماضي، يشترك حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، وحزب المعارضة الرئيسي، والمؤتمر الوطني الهندي بعدم الثقة باقتصاديات السوق الحرة.
التركيز على أسواق جديدة
يعتقد الكاتبان أن هناك على الأقل سببان مقنعان آخران لرفض الهند الانضمام إلى الاتفاقية. السبب الأول هو أن إزالة الحواجز الجمركية سيكون مكلفا بالنسبة للعديد من المؤسسات الصناعية الهندية غير القادرة على المنافسة. أما السبب الثاني فيتمثل في أن العديد من الفلاحين الهنود متخوفون من أن الانفتاح السريع على المنتجات الزراعية الأجنبية قد يؤدي إلى خسائر فادحة للمنتجات الهندية.
وعلى عكس القطاعين الزراعي والصناعي، قد يكون قطاع الخدمات المستفيد الوحيد من انضمام الهند إلى الاتفاقية. ووفقا لبيانات منظمة التجارة العالمية، كانت الهند ثامن أكبر مصدر للخدمات في العالم، وتاسع أكبر مسوق خدمات عام 2018، وتعرف الهند بأنها القوة المحركة للخدمات في مجالات تكنولوجيا المعلومات عالميا.
وقد مارست شركات تكنولوجيا المعلومات الهندية ضغوطا من أجل الوصول بشكل أفضل إلى أسواق البلدان الأعضاء في “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة”. وسعت الشركات الهندية إلى الحصول على امتيازات تتعلق بتأشيرات الأعمال وأنظمة الضرائب المحلية، خاصة في الصين.
وفي حين وعدت الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة بتحرير نسبي لقطاع الخدمات، فإن الدول الأعضاء لم تقدم تنازلات ذات شأن فيما يتعلق بتنقل المهنيين عبر الحدود.
ويوضح الكاتبان أن الهند ليست مستعدة لفتح أسواقها أمام التجارة الإلكترونية في ظل غياب منظومة قانونية مؤطرة، فضلا عن التفوق الواضح للدول الأخرى الأعضاء في هذا المجال، مثل الصين.
ويختمان بأن الهند التي رفضت الانضمام إلى الاتفاقية الجديدة لحماية اقتصادها، قد تسعى في المقابل إلى التركيز على أسواق جديدة، وتحديدا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة؛ إلا أن هذا النهج ليس بالأمر السهل، لأن هذه الدول تفرض بدورها معايير صارمة.
المصدر : فورين بوليسي