من أبرز معضلات الدولة العراقية بعد عام 2003، التواطؤ الجماعي فيما يتعلق بالتجاوز على الصلاحيات التي حددها الدستور، أو القانون، أو التعليمات، أو الأنظمة الداخلية، أو أي محدّدات مُلزِمة أخرى!
رئيس الجمهورية يجتهد، فيتجاوز صلاحياته المقررة، وينتهك نصا دستوريا صريحا، ويشكل لجنة للتعديلات الدستورية! ورئيس مجلس النواب يتجاوز صلاحياته المقررة، بموجب النظام الداخلي لمجلس النواب، وينتهك نصوصا صريحة في ذلك النظام، ويقرر تشكيل لجان تحقيقية مؤقتة تبعا لمصالحه الشخصية، من دون ان يعترض أي نائب من النواب الثلاثمائة وتسعة وعشرين على ذلك! والنائب الأول لرئيس مجلس الأول يعطي لنفسه صلاحية مخاطبة وزارة العدل بالتريث في تنفيذ قراراتها وكأن مبدأ الفصل بين السلطات الوارد في الدستور العراقي مجرد ديباجة لفظية لا أكثر!
على المستوى الحكومي، كان واضحا منذ اللحظة الأولى، أن منصب رئيس مجلس الوزراء لا يخضع لأية محددات دستورية او قانونية! وذلك من خلال تأويل النص الدستوري الوارد في المادة 78 التي نصت على أن «رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة والقائد العام للقوات المسلحة» على أنها «صلاحية مطلقة» بعيدا عن أي محددات!
وقد ساهمت المحكمة الاتحادية في كثير من قراراتها المسيسة بتسخيف فكرة الصلاحيات الدستورية والقانونية، ولعل أبرز هذه القرارات هو القرار رقم 88/ اتحادية/ 2010 الصادر في 18 كانون الثاني/ يناير2011، الذي أطاح باستقلالية الهيئات المستقلة بموجب الدستور، وجعلها تابعة لمجلس الوزراء! ومراجعة نص قرار المحكمة الاتحادية سيجد أنها، في سبيل تسويغ قرارها المسيس، لم تقف عند حدود اختصاصاتها بتفسير نصوص الدستور، بل تجاوزت ذلك لتنتقد المشرع/ الدستور نفسه! وذلك من خلال الإشارة إلى أن الدستور، بربطه بعض الهيئات المستقلة ذات الطبيعة التنفيذية بمجلس النواب، خلق وضعا لا يتفق مع اختصاصات المجلس الرئيسية، ويتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات! والمفارقة غير المفهومة، هنا أيضا، أن المحكمة الاتحادية قررت، مرتجلةً، أن فكرة الاستقلالية عن السلطة التنفيذية، والخضوع لرقابة مجلس النواب «لا تتفق مع ما هو جار عليه في برلمانات العالم» وهو أمر غير صحيح؛ فالفصل التاسع/المادة 181 من دستور جنوب أفريقيا نص على إنشاء سبعة مؤسسات «مستقلة» تعمل على «تعزيز الديمقراطية الدستورية» من بينها: لجنة جنوب أفريقيا لحقوق الإنسان، المراجع العامة، اللجنة الانتخابية. لا تخضع إلا للدستور والقانون، ولا يجوز لأي شخص أو جهاز من أجهزة الدولة التدخل في سير عملها، وهي مسؤولة أمام الجمعية الوطنية حصرا والأمر ينطبق على الهند أيضا، فلجنة الانتخابات الهندية بموجب الدستور لا تتبع أيا من السلطتين التشريعية او التنفيذية، وليس هناك أي سلطة قانونية أعلى منها.
في سياق فوضى الصلاحيات، أصدر رئيس مجلس الوزراء العراقي مؤخرا أمرين ديوانيين؛ الأول بالرقم 29 في 27 آب/ أغسطس 2020 والقاضي بتشكيل «لجنة دائمة للتحقيق في قضايا الفساد والجرائم الهامة» تحال إليها هذه القضايا عن طريقه شخصيا. وقد تشكلت هذه اللجنة من ضابط برتبة فريق في وزارة الداخلية، وممثل واحد من كل من جهاز المخابرات، وجهاز الأمن الوطني، وهيئة النزاهة. على أن يتم تنسيب 25 محققا من الجهات المذكورة لإسناد عمل اللجنة. وأُعطي للجنة الحق باستدعاء أي شخص، أما بالنسبة للمتهمين فلا يتم إحضارهم بناء على قرار من قاضي التحقيق المختص. وأخيرا مفاتحة مجلس القضاء الأعلى لتسمية قاض أو أكثر، ونائب مدع عام، للإشراف على إجراءات التحقيق.
ساهمت المحكمة الاتحادية في كثير من قراراتها المسيسة بتسخيف فكرة الصلاحيات الدستورية والقانونية، ولعل أبرز هذه القرارات هو القرار رقم 88/ اتحادية/ الذي أطاح باستقلالية الهيئات المستقلة
وكما هو واضح فان اللجنة جعلت هيئة النزاهة، المستقلة بموجب الدستور، والتي تخضع لرقابة مجلس النواب بموجب الدستور، طرفا في لجنة تترأسها السلطة التنفيذية بشكل صريح! والأهم من هذا أن القضاء نفسه، المستقل بموجب الدستور أيضا، أصبح مشرفا على تحقيقات يجريها محققون تابعون للسلطة التنفيذية من جهة، ويصدر أوامره بإلقاء القبض بناء على هذه التحقيقات!
الأمر الديواني الثاني كان الأمر رقم 3 الصادر في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020 والذي قرر تشكيل «مجلس رؤساء الهيئات المستقلة والجهات غير المرتبطة بوزارة» برئاسة رئيس مجلس الوزراء. ومن مهام هذا المجلس «اقتراح السياسات العامة لعمل الهيئات المستقلة والجهات غير المرتبطة بوزارة لعرضها على مجلس الوزراء بوصفه المسؤول عن وضع السياسات العامة للدولة» وأية «مهام أخرى يقررها رئيس المجلس»! لكن بعد مراجعة موقع رئيس مجلس الوزراء الرسمي سنكتشف أن الجلسة الاعتيادية الأولى لهذا المجلس انعقدت يوم 16 تشرين الثاني/ نوفمبر، أي قبل صدور الامر الديواني أصلا!
إن تشكيل هذا المجلس يعني أن الهيئات المستقلة أصبحت تتبع السلطة التنفيذية، وليس ثمة التزام بما جاء في قرار المحكمة الاتحادية المتعلق بهذه لهيئات، الذي وإن أطاح بهذه الاستقلالية، إلا انه أبقى على ما سماه «استقلالية قراراتها وإجراءاتها المهنية»! كما أن هذا المجلس أَخْضَعَ، للمرة الأولى، الهيئات التي ظلت مرتبطة بسلطة مجلس النواب، وتحديدا هنا المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، والمفوضية العليا لحقوق الإنسان، التي لم تستطع السلطة التنفيذية في السنوات السابقة السيطرة عليها كما فعلت مع الهيئات الأخرى!
المفارقة أن لا أحد من رؤساء هذه الهيئات المستقلة، قد انتبه إلى أن قانون هيئته لا يتيح له أن يكون طرفا في هكذا مجلس! فقانون البنك المركزي العراقي رقم 56 لسنة 2004 في المادة رقم 2/ 2 ينص على أن «لا يتلقى البنك المركزي العراقي أية تعليمات من أي شخص أو جهة بما في ذلك الجهات الحكومية». وينص قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات رقم 31 لسنة 2019 في المادة 1 على أنها «هيئة مهنية مستقلة ومحايدة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري وتخضع لرقابة مجلس النواب». وينص قانون المفوضية العليا لحقوق الإنسان رقم 53 لسنة 2008 في المادة 2/ أولا على انها «تتمتع بالشخصية المعنوية ولها استقلال مالي وإداري… وترتبط بمجلس النواب وتكون مسؤولة أمامه». فلماذا قبل رؤساء هذه الهيئات المستقلة أن يكونوا أعضاء في لجنة برئاسة رئيس مجلس الوزراء، وكيف سوّغوا لأنفسهم القبول بمهام يقررها لهم؟
الملاحظة الأهم هنا أن المقارنة بين الأوامر/ القوانين التي أصدرتها سلطة الاحتلال كان أكثر «ديمقراطية» من القوانين التي أصدرتها السلطة الوطنية! فقد ورد في الامر/ القانون رقم 92 الخاص بالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، مثلا، أنها «تحكم ذاتها… مستقلة عن فروع السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية» وورد في الأمر / القانون رقم 66 الخاص بالهيئة العراقية لخدمات البث والإرسال أن الاستقلالية تعني «القدرة المادية والتحريرية والإدارية على ممارسة العمل بدون الخضوع لتأثير أو سيطرة الحكومة أو تأثير أي مصالح خارجية غير ملائمة». فيما وجدنا القوانين البديلة تحرص على عدم تعريف معنى الاستقلالية أولا، وعاجزة عن حماية هذه الإستقلالية بعبارات واضحة تتعلق بحظر التدخل الحكومي في عملها!
في النهاية لا نملك إلا أن نكرِّر، يائسين، ما نقوله دائما حول عجز الطبقة السياسية العراقية عن فهم معنى استقلالية «الهيئات المستقلة» التي اصطنعها الأمريكيون في العراق، وأن هذه الطبقة لا يمكنها فهم السلطة سوى على أنها هيمنة مطلقة على الدولة ومؤسساتها!
يحيى الكبيسي
القدس العربي