الانهيار الاقتصادي العراقي أول صداع ينتظر إدارة بايدن

الانهيار الاقتصادي العراقي أول صداع ينتظر إدارة بايدن

صار الملف العراقي تركة ثقيلة جدا يتسلمها كل رئيس أميركي جديد منذ الغزو الأميركي سنة 2003. ولن يشذ الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن عن هذه القاعدة حيث سيستلم هذه التركة التي زادتها تعقيدا تجارب أسلافه خاصة باراك أوباما وتداعيات الاتفاق النووي مع إيران وقرار الانسحاب ثم العودة لمحاربة الإرهاب، وبعده دونالد ترامب والحرب ضد داعش وتداعيات ما شهدته المنطقة على خلفية كل ما سبق بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي الذي يواصل الانهيار.

بغداد – يترقب العراقيون سياسة الإدارة الأميركية الجديدة التي ستنتهجها في بلدهم مع دخول المرشح الديمقراطي جو بايدن البيت الأبيض رسميا في يناير 2021. ويشكل الملف العراقي تحديا بالنسبة لبايدن في ظل الأوضاع الصعبة التي تعصف بالبلد خاصة أمنيا واقتصاديا وسياسيا.

وأوضح كل من فرهاد علاءالدين وكينيث إم بولاك في تقرير نشر على موقع فورين بوليسي أن انهيار الاقتصاد العراقي سيكون بمثابة أول صداع ينتظر إدارة بايدن، حيث من المرجح أن يقود الانهيار الاقتصادي إلى انهيار نظامه السياسي المتهالك، مما قد يؤدي بعد ذلك إلى إشعال جولة أخرى من الحرب الأهلية.

وسلط الكاتبان الضوء على أسباب انهيار الاقتصاد العراقي والناجمة أساسا عن استشراء الفساد وتغول المحاصصة الحزبية والدور الإيراني التخريبي الذي يريد تأجيج الأوضاع لإرباك الحكومة، بهدف بسط نفوذها في البلد. كما تطرقا إلى السياسة التي سيتخطاها بايدن مع تردي أوضاع العراق، وإن كان سيستفيد من أخطاء الإدارة الأميركية السابقة، خاصة أنه لم يوضح بشكل كاف الإستراتيجية تجاه البلد بخلاف التعهدات بإنهاء “الحروب الأبدية” وسحب القوات الأميركية من الشرق الأوسط.

معضلة الفساد
على مدى العقدين الماضيين، خلق الفساد مشكلة ذات وجهين للعراق، مع إدارة البلاد من قبل حكومات ضعيفة ومتواطئة قائمة على المحاصصة الحزبية والتي تعمل كشبكات محسوبية ضخمة دون مراعاة لهموم الشارع، فامتصت بذلك آلات فساد عائدات النفط من الخزانة ومررتها إلى مؤسسات الدولة ودوائرها الانتخابية في شكل وظائف وعقود وامتيازات أخرى.

وأدى انتشار الفساد إلى خنق ما كان يمتلكه القطاع الخاص في العراق من القليل، مما يعني أنه لا يوجد الكثير من البدائل لوظائف القطاع العام. وكنتيجة لذلك، أصبحت الحكومة الآن أكبر رب عمل، وتعتمد نسبة كبيرة من السكان على الدولة لكسب عيشها، إما بشكل مباشر من خلال الرواتب والمعاشات التقاعدية، أو بشكل غير مباشر من خلال العقود أو توفير السلع والخدمات لمن هم في كشوف المرتبات الحكومية.

وحتى الشركات الصغيرة في العراق تعتمد في النهاية على الحكومة لأن الكثير من زبائنها، خاصة في المدن الكبرى، هم أنفسهم يتلقون رواتبهم من الحكومة، بطريقة أو بأخرى. علاوة على ذلك، لا تزال الحكومة العراقية توفر السلع الغذائية بشكل شهري عبر نظام التوزيع العام، والذي يظل عنصرا مهما في الحياة اليومية للطبقة العاملة والفقراء العراقيين.

وليس من المستغرب أن تكون هناك زيادة بمقدار ثلاثة أضعاف في عدد العاملين في القطاع العام منذ عام 2004، وتدفع الحكومة رواتب تزيد بنسبة 400 في المئة عما كانت عليه قبل 15 عاما. وهكذا أصبحت الحكومة وعائداتها النفطية المحرك الرئيسي للاقتصاد العراقي والمزود الرئيسي للشعب العراقي. والنتيجة هي أن بغداد تحتاج إلى 5 مليارات دولار شهريا لدفع الرواتب المباشرة والمعاشات التقاعدية، بالإضافة إلى ملياري دولار أخرى لتغطية الخدمات الأساسية وتكاليف التشغيل، والتي يشكل الكثير منها أشكالا غير مباشرة من الدعم للشعب العراقي.

ومع ذلك، ومنذ انتشار جائحة كورونا وانهيار أسعار النفط (التي توفر حوالي 90 في المئة من الإيرادات الحكومية)، تقلب الدخل الشهري للعراق بين 2.5 و3.5 مليار دولار. وهذا يعني أن بغداد تعاني من عجز شهري يتراوح بين 3.5 و4.5 مليار دولار. والآن تنفد هذه الأموال التي كان من الممكن أن تحافظ على سداد هذا العجز.

وصرح وزير المالية العراقي، علي علاوي، في مقابلة تلفزيونية في أكتوبر الماضي أن “احتياطيات البنك المركزي العراقي تبلغ 53 مليار دولار”. ومنذ ذلك الحين، أقر مجلس النواب قانون العجز في التمويل الذي مكّن الحكومة من اقتراض 10 مليارات دولار لدفع رواتب شهر أكتوبر ونوفمبر وديسمبر 2020. وبذلك يصل إجمالي الدين العراقي إلى 80 مليار دولار، وفقا لمصادر حكومية ومقترحات الميزانية، وأجبرت البلاد على تخصيص أكثر من 12 مليار دولار من الميزانية السنوية للفوائد وسداد أصل هذه القروض، وكلها تزيد من تفاقم نقص رأس المال الحكومي.

مصطفى الكاظمي: سنواجه مشكلة دفع الرواتب في يناير المقبل

ووفقا للعديد من تجار النفط والمحللين، يأمل بعض المسؤولين في الحكومة العراقية ببساطة أن تؤدي الزيادة المتوقعة في أسعار النفط هذا الربيع إلى إنقاذهم. ومع ذلك، تشير معظم التوقعات إلى ما لا يزيد عن 10 إلى 15 في المئة من ارتفاع أسعار النفط، وهي نسبة ضئيلة للغاية للقضاء على أزمة العراق التي تلوح في الأفق. وحتى هذا قد يتلاشى إذا تسببت صادرات النفط العراقية والليبية والإيرانية الموسعة في أن يحذو السعوديون والروس حذوهم ويزيدون الإنتاج لحماية حصتهم في السوق.

وإذا كان العراق غير قادر على الاستمرار في دفع الرواتب، والحد الأدنى من النفقات الحكومية، وتكاليف التشغيل، فستكون لذلك عواقب وخيمة.

وكان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي قد دق ناقوس الخطر في مؤتمر صحافي في نوفمبر الماضي، محذرا بقوله “سنواجه مشكلة دفع الرواتب في يناير المقبل.. أنا أحذركم من الآن”.

وأصدرت الحكومة ورقة الإصلاح البيضاء في 13 أكتوبر، ومع ذلك، لم تبدأ بعد بالتنفيذ. ونتيجة لذلك، لم يتم اتخاذ قرار بخفض الرواتب، أو تقليص أعداد موظفي الحكومة، أو حتى التخلص من مئات الآلاف من الموظفين الوهميين خوفا من إغضاب السياسيين المهمين في العراق.

مأزق الكاظمي
عندما تولى السلطة، حظي الكاظمي بتأييد واسع النطاق من العراقيين العاديين والآلاف الذين كانوا يحتجون في الشوارع، ومن المؤسسة الدينية الشيعية في العراق، ومن الأحزاب السياسية الشيعية المعتدلة، ومن العديد من السنة، وحتى من الأكراد. كان الجميع ينظر إليه على أنه ذكي، وغير مهتم بالسياسة، وفعال، وقريب من الأميركيين.

ومع ذلك، هناك خوف متزايد في جميع أنحاء البلاد من أن الكاظمي لا يستطيع إصلاح النظام العراقي الهش. وقد تكون الأزمة الاقتصادية التي قد تنجم عن نفاد أموال العراق بمثابة المسمار الذي سيُدقّ في ذلك النعش.

وستحاول الجماعات والقبائل المسلحة، بما في ذلك الميليشيات المسلحة المدعومة من إيران، ملء الفراغ واغتصاب دور قوات الأمن الأساسية في العراق. وهذه المجموعات نفسها ستقاتل أيضا من أجل السيطرة على الأرض. قد يحاولون السيطرة على الموارد المدرة للدخل مثل حقول النفط والموانئ والمعابر الحدودية والشركات الكبيرة والأراضي الزراعية والممتلكات الخاصة. وفي مثل هذه الحالة، يمكن أن يصبح النزاع المسلح والاستيلاء على الأراضي أمرا شائعا مرة أخرى، باستثناء تلك المناطق التي تتمتع بأمن قوي، مثل إقليم كردستان.

ومع ذلك، وحتى إقليم كردستان لن يكون في مأمن من المشاكل الاقتصادية الداخلية ما لم يتمكن من توسيع قاعدة موارده، لأنه أيضا يعتمد ماليا على بغداد. ومن ثم سيستهدف الأكراد حقولا نفطية مثل كركوك، لكن هذا لن يؤدي إلا إلى إشعال الصراع بين أربيل وبغداد، ناهيك عن الميليشيات الشيعية التي ستقاوم مثل هذه الخطوة. وكما حدث من 2005 إلى 2007 ومن 2014 إلى 2017، ستورّط جولة أخرى من الصراع الأهلي في العراق الجيران من حوله. فالعراق مهم بالنسبة لهم جميعا، ومن المتوقع أن يتدخلوا لتأمين مصالحهم.

بالنظر إلى خطورة الوضع وأهمية العراق للمنطقة وسوق النفط الدولي، لا يمكن للولايات المتحدة والمجتمع الدولي الوقوف مكتوفي الأيدي. وبالطبع، خلال الأشهر الستة الأولى من إدارته ومع انتشار الجائحة وأزمة اقتصادية ضخمة في الداخل يجب التعامل معها، لن يكون بايدن قادرا على جعل هذا الأمر على رأس أولوياته أيضا، إلا أن التصرف بشكل عاجل سيجنّب الجميع مواجهة خيارات صعبة لاحقا، عندما يكون العراق في حالة سقوط حر.

وإذا كانت الإدارة الأميركية على استعداد لقيادة الأمور، فمن المحتمل أن يكون العديد من الأطراف على استعداد للمشاركة أيضا. ومن المتوقع أن تقوم المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ودول الخليج العربي وحتى بعض الدول الأوروبية وشرق آسيا بدفع بعض الأموال، لاسيما وأن أزمة العراق القادمة هي أزمة سيولة.

وسيحتاج العراق إلى المال لمنع انهيار نظامه الاقتصادي. وإذا كانت الولايات المتحدة على استعداد للتعهد بدفع مبلغ كبير، ربما 1 مليار دولار، سيكون من الممكن تجميع حزمة أكبر تبلغ ما بين 5 إلى 10 مليارات دولار للعراق من الدول الأخرى.

ويستنتج فرهاد علاءالدين وكينيث إم بولاك في ختام تقريرهما أنه كان على الولايات المتحدة أن تتعلم خلال السنوات الـ12 الماضية درسين مهمين حول هذا الجزء من العالم.

أولا، ما يحدث في الشرق الأوسط لا يبقى هناك. وثانيا، درهم وقاية خير من الكثير للعلاج، كما أثبتت سياسات واشنطن المأساوية تجاه العراق وسوريا.

وبطبيعة الحال، وبمعدل الإنفاق الحالي في العراق، فإن حتى 10 مليارات دولار ستدوم بالكاد ثلاثة أشهر. ولهذا السبب يجب أن تأتي الأموال بشروط قوية مرفقة: تدابير تقشف لتشجيع الادخار، وتخفيضات كبيرة في الإنفاق الحكومي، وإجراءات صارمة لمكافحة الفساد، ودمج أفراد الميليشيات بشكل كامل في الجيش العراقي، كأفراد، وليس كميليشيات، وبالتالي ستكون مسؤولة أمام الحكومة العراقية.

ويلخص فرهاد علاءالدين وكينيث إم بولاك بالقول “عندما يتولى منصبه كرئيس، قد لا تكون معالجة مشاكل العراق هي أولويته أو رغبته، لكن الأزمة توفر له فرصة لوضع البلاد، والمصالح الأميركية هناك، على الطريق الصحيح بطريقة لم يستطع أن يحققهاعندما كان مسؤولا عن سياسة العراق في فترة حكم أوباما”.

العرب