طغت حالة من الارتباك على المشهد السياسي السوداني بعد إعلان شطب اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لكن تلك الخطوة تصطدم مع رغبة الولايات المتحدة ترك الباب مواربا، بما يتيح رفع دعاوى قضائية جديدة وفقا لقانون العدالة ضد الإرهاب (غاستا)، الذي أقره الكونغرس منذ أربع سنوات.
الخرطوم – تضغط السلطة الانتقالية السودانية باتجاه تمرير تشريع “السلام القانوني”، الذي يمنح الدولة حصانة ضد الملاحقات المتعلقة بأعمال إرهابية نُفذت في الماضي، ولم تحرز تقدما ملموسا حتى الآن، ما يعني أن الملف سيكون معرضا لمزيد من النقاشات، بعد استلام الإدارة الأميركية الجديدة مهام عملها في العشرين من يناير المقبل.
ويمنح قانون العدالة ضد الإرهاب (غاستا) المحاكم الأميركية الحق في استجواب الجهات أو الدول، التي تساهم أو تشارك في تقديم الدعم المباشر أو غير المباشر لأشخاص أو منظمات تشكل خطراً داهماً على أمن الولايات المتحدة، أو ارتكبت أعمالا تهدد سلامة مواطنيها، وهو ما يرتكن إليه ضحايا 11 سبتمبر في الدعاوى القضائية المرفوعة ضد السودان.
ويسمح شطب السودان من اللائحة بتحريك الأموال المجمدة في الخارج خلال عهد الرئيس السابق عمر البشير، والموضوعة في محافظ مؤقتة ومعاملات سرية، وهو أمر يشجع محامي ضحايا أحداث نيويورك على تحريك دعاوى للحصول على تعويضات، وسط اعتراضات لنواب في الكونغرس على المبلغ الذي توصلت إليه السلطة الانتقالية وإدارة ترامب.
منتصر الطيب: واشنطن أبقت ورقة الحصانة بيدها كنوع من الاحتياط
ووقعت الخرطوم اتفاقية مطالبات ثنائية مع واشنطن الشهر الماضي نصت على شطب السودان من قائمة الإرهاب وتمرير قانون “السلام القانوني” مقابل دفع 335 مليون دولار لتسوية ضحايا تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا والهجوم على المدمرة كول، واغتيال موظف بالوكالة الأميركية للتنمية الدولية في الخرطوم مطلع عام 2008.
وعلى السلطة الانتقالية الاستعداد للتحرك في مسارات مختلفة لإقناع إدارة الرئيس جو بايدن، بأهمية غلق الملف تماما، حال فشلت المباحثات التي تُجريها أطراف إقليمية عدة تستهدف التسوية قبل مغادرة الرئيس دونالد ترامب موقعه في البيت الأبيض، وهو ما يكبل حركة السودان السياسية والاقتصادية ويجعله عرضة للضغوط مجددا.
وتمسك الخرطوم بورقة التطبيع مع إسرائيل مقابل منحها الحصانة السيادية، لكنها قد تفقد مفعولها، إذا لم يكن هناك اهتمام أميركي من إدارة بادين بهذا الملف، بالتالي على السودان الدخول في دائرة مضنية من المفاوضات مع نواب الكونغرس الذين يربطون بين التحول الديمقراطي في السودان، وبين الاتجاه نحو تسوية الملف بشكل كامل.
وقال القيادي بتجمع المهنيين السودانيين، منتصر الطيب، إن “الإدارة الأميركية أبقت على الإمساك بورقة الحصانة السيادية بيدها كنوع من الاحتياط، حال حدوث انتكاسة في ملف التحول الديمقراطي، والضمانة الحقيقية لعدم تحريك تلك الورقة يتمثل في عدم وجود شخصيات في السلطة لها علاقة بنظام البشير وجرائمه في السودان”.
ولم يستبعد الطيب في تصريح لـ”العرب” أن تمنح واشنطن السلطة الانتقالية فرصة لإصلاح علاقاتها الخارجية وتراقب عن كثب علاقة المدنيين والعسكريين، وتتابع ملف التعامل مع الشخصيات المتورطة في عمليات إرهابية، مازالت موجودة داخل السودان، بالتالي من الصعب غلق ملف الإرهاب خلال فترة وجيزة.
وأوضح الطيب، أن إحداث إصلاحات داخلية ليس بيد الولايات المتحدة، وممارسة ضغوط لحل قضية ملكية الشركات وتبعيتها للقوات المسلحة والدعم السريع لن تؤدي إلى شيء، بل تضاعف من التعقيدات في العلاقة بين البلدين على المدى المنظور.
وكشفت دوائر سياسية لـ”العرب”، أن هناك ربطا أميركيا ضمنيا بين إنجاز ملف السلام الشامل عمليا وضم حركتي عبدالواحد محمد نور وعبدالعزيز الحلو، إلى الاتفاق الذي جرى توقيعه بجوبا أكتوبر الماضي، وبين غلق ملف عقوبات الإرهاب بشكل كلي، فطالما استمرت الأوضاع دون حل نهائي في أقاليم الهامش سوف تبقى هناك بيئة داعمة لإفراز عناصر إرهابية مؤثرة.
وتتعارض هذه الرؤية مع تقديرات المكون العسكري في السلطة الانتقالية، حيث يعتقد أن إنهاء الملف حاليا يتيح للبلاد الحصول على فرص استثمارية أكبر والدخول في شراكات قوية تسهم في إنهاء معاناة أقاليم الهامش التي تضررت بفعل عزل السودان عن المنظومة الدولية طيلة سنوات، وعدم منح حصانة سيادية أو إقرار عقوبات جديدة مما يعني استمرار الأزمة الاقتصادية.
وثمة مشكلة دقيقة تتمثل في أن استمرار الملاحقات القضائية ضد السودان في المحاكم الأميركية يدعم استمرار رقابة وزارة الخزانة على عمليات الدعم والتمويل القادمة من بنوك دولية إلى السودان، ويعرقل بعض تعاملاته مع المصارف الخارجية.
درة قمبو: السلطة الانتقالية تواجه مشاكل ما لم تُسوّ الملف تماما
ويجعل تسليط سيف التعويضات على رقبة السلطة في الخرطوم غير قادرة على جذب الاستثمارات في قطاعات ذات تمويل مرتفع، مثل النفط والتعدين والكهرباء، نتيجة عدم الثقة في اقتصاد قد يكبل بأعباء إضافية.
وقالت المحللة السياسية درة قمبو، إن السودانيين استفاقوا على أزمة وجود بلدهم تحت طائلة العقوبات الدولية، وحالة الفرح بدت منقوصة إذ أدركوا أن الخرطوم قد تكون أمام دوامة جديدة من الضغوط، التي ستكون لها انعكاسات سلبية على الأوضاع الداخلية، وربما تتخذها الأطراف المتمسكة بالسلطة كذريعة لخدمة أغراضها، والإيحاء بأن هناك مؤامرات تستدعي تقوية القبضة الأمنية.
وأشارت لـ”العرب”، إلى أن السلطة ستواجه مطبات عديدة خلال الفترة المقبلة، طالما أن ملف العلاقات مع الولايات المتحدة تحكمه ألاعيب ومناورات سياسية، في ظل الرفض الأميركي لتسوية ملف دعم السودان للإرهاب تماما.
ويحذر متابعون، من مغبة السيناريوهات الأميركية المقبلة مع اختلاف أجندات المدنيين والعسكريين في السلطة بالسودان، ما يجعل الفصل بينهما في يد الشارع الذي يصر على رفض تضخم دور الجيش السياسي في البلاد.
ولفت رئيس الحكومة عبدالله حمدوك، في تصريحات صحافية، الاثنين، إلى أن مشاركة الجيش في شركات القطاع الخاص أمر “غير مقبول”، وهذه الشركات يجب أن تتحول إلى شركات مساهمة عامة.
وتوقع مراقبون، أن يواجه المكون العسكري ضغوطاً مضاعفة لتخفيف قبضته القوية على شركات حكومية وخاصة، عقب إصدار قانون التحول الديمقراطي قبل وقت قصير من شطب اسم السودان من لائحة الإرهاب، وهو أمر لن يعارضه المكون المدني، ومرجح أن يدعم المحاولات الرامية لتمكينه من السيطرة على موارد الدولة.
العرب