عجز الدولة العراقية عن إغلاق ملف النازحين على الرغم من مضي فترة طويلة على نهاية حرب داعش، يمثّل مظهرا على فشلها في طي تلك الصفحة الدامية وتجاوز مآسيها بالاستقرار والإعمار اللذين يمثلان أفضل طريقة لإزالة الأسباب التي أوجدت أرضية لزرع داعش في البلد، وجرّته إلى تلك الحقبة السوداء التي لا تزال آثارها ماثلة في أذهان الناس وواقعهم.
الموصل (العراق) – تتميّز المعالجة العراقية لملف النزوح المترتّب عن سنوات الحرب ضدّ تنظيم داعش بالارتباك والسطحية، اللذين حالا دون إيجاد حلول مناسبة له رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على نهاية الحرب، وأفضيا في الأخير إلى محاولة السلطات إقفاله على عجل ودون توفير أدنى الشروط الضرورية لذلك.
وباتت المئات من العوائل مضطّرة بعد إقدام السلطات على إغلاق مخيمات النزوح، للعودة إلى قراها وبلداتها، رغم أنّها لا تزال مدمّرة كما غادرتها قبل سنوات أو أسوأ، وتفتقر إلى أدنى المرافق ولا يتوفّر فيها الأمن فضلا عن انعدام موارد الرزق فيها.
وأورد تقرير لـ”أسوشيتد برس” نماذج عن معاناة العوائل العائدة إلى تلك القرى المدمّرة، كما هي حال مرعي حامد عبدالله البالغ من العمر سبعين عاما والقادم إلى قريته غرب مدينة الموصل بعد ثلاث سنوات من النزوح ليجدها خرابا.
ولإيواء أسرته المكونة من سبعة أفراد، أقام عبدالله الخيمة التي كان قد حملها على عجل عندما أغلقت الحكومة مخيم حمام العليل الشهر الماضي مما أجبره و8500 آخرين على العودة إلى مسقط رأسه المدمر ليواجه مستقبلا مجهولا.
وإلى قرية ديباجة الموطن الأصلي لعبدالله، عادت 200 عائلة أخرى لتقيم بين الذخائر والقذائف المنفلقة والمنازل المحطمة والخيام الحاملة لشعار وكالة الأمم المتحدة للاّجئين. ودون مياه أو كهرباء تبدو القرية سوداء في الليل. ويقول عبدالله “لو كان الأمر بيدي لما غادرت. لكنه لم يكن كذلك”.
وكان إغلاق مخيم حمام العليل جنوبي الموصل، جزءا من مسعى حكومي لإغلاق جميع مخيمات النازحين داخليا بحلول نهاية السنّة. وتقول الحكومة العراقية، التي تعاني من ضائقة مالية، إن الإغلاق السريع ضروري لإحياء جهود إعادة الإعمار المتخلفة. وتحذّر جماعات الإغاثة من أن إغلاق المخيمات بشكل مفاجئ قد يتسبب في تشريد عشرات الآلاف من الأشخاص في أشهر الشتاء وسط جائحة كورونا. ويهدد التنفيذ العشوائي، على حد قول تلك المنظمات، بخلق نزوح جديد وانتشار النازحين عشوائيا وإشعال الاستياء في المجتمع العراقي الذي لا يزال بصدد التعافي البطيء من ذكريات حقبة داعش الوحشية.
وحتى الآن، تأثر ما لا يقل عن 34 ألف شخص بسبب إغلاق أو دمج 11 مخيما رسميا منذ أكتوبر. وتقول مجموعات الإغاثة إن الرقم أعلى على الأرجح. ولا يزال 26 ألف شخص آخر في المخيمات الثلاثة المتبقية المقرر إغلاقها في العراق.
كما يعيش أكثر من 180 ألف شخص في 25 مخيما أخرى في المنطقة الشمالية التي يديرها الأكراد. ولا يُعلم متى سيواجهون قرار الإغلاق.
ويُترك سكان المخيمات المطرودون للعيش في منازل مدمرة أو في خيام، أو يستنزفون مدخراتهم لدفع تكلفة الإيجار باهظ الثمن في المناطق الحضرية. أما العائلات التي تجمعها صلة ما بأشخاص انتموا إلى تنظيم داعش، فمعاناتها مضاعفة، فهي منبوذة وليست لديها أماكن تلجأ إليها.
وتقول مارين أوليفسي، منسقة الإعلام في المجلس النرويجي للاجئين، “قد يبدو إخراج الناس من المخيمات بمثابة إنهاء للنزوح، لكنه لا يحل الأزمة ولا يقدم حلولا دائمة لهذه القضية”.
وأدت حرب العراق 2014 – 2017 ضد تنظيم الدولة الإسلامية إلى نزوح 6 ملايين عراقي من ديارهم، أي ما يقرب من 15 في المئة من السكان. وعاد الكثيرون على مر السنين. وفي أغسطس 2019، بدأت حكومة بغداد في إغلاق المخيمات. وقد سرّعت العملية في منتصف أكتوبر، عندما كانت المخيمات تضم أكثر من 240 ألف شخص.
ووفقا لمسح أجراه المجلس النرويجي للاجئين قبل إغلاق المخيم، قال ما يقرب من 75 في المئة من سكان مخيم حمام العليل إنهم لا يستطيعون العودة إلى منازلهم لأنها دمرت.
وفي مخيم ليلان غرب مدينة كركوك مُنح 7 آلاف نازح أياما لحزم أمتعتهم والمغادرة، مما دفع الإدارة إلى الإسراع وتجهيز إمدادات الأدوية المنقذة للحياة لمدة ثلاثة أشهر.
ودقت الأمم المتحدة ناقوس الخطر إذ وجدت أن 30 في المئة من العائدين ليسوا في مساكن آمنة أو كريمة منذ مغادرة المخيمات. ويقول المسؤولون الحكوميون إنه بدفع النازحين للعودة، يمكن لمجموعات الإغاثة التحول من إدارة المخيمات إلى المساعدة في التنمية.
وقال نجم الجبوري محافظ نينوى حيث يقع حمام العليل “نريدهم أن يعودوا لإعادة بناء مدنهم وقراهم.. سيعانون، لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نبقيهم في المعسكرات دون موعد نهائي للعودة”.
وقال آزاد داود، نائب رئيس قسم الهجرة في الموصل، إنه مثال على ما يأمل بعض مسؤولي نينوى أن يتكرّر في أماكن أخرى، ساعدت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة النازحين في مخيم السلامية على تقييم تكلفة إصلاح المنازل.
وعلى عكس ما قاله العشرات من العائدين لوكالة أسوشيتيد برس، قال داود إن النازحين منحوا خيار البقاء في المخيمات إذا اعتبرت مناطقهم الأصلية غير آمنة.
ورغم الضغط على رئيس الوزراء العراقي والأمم المتحدة للحصول على المزيد من المساعدة، مع انخفاض درجات الحرارة، قال العديد من العائدين إنهم لا يستطيعون الانتظار.
وفي الموصل، تفقد غانم خلف، البالغ من العمر 41 عاما، الخندق الذي حفره بيديه لمنع مياه الصرف الصحي من أن تغمر منزله المكون من طابق واحد كلما هطل المطر. ويقول خلف، وهو أب لخمسة أطفال غادر مخيم جادة منذ أشهر “علينا أن نبقى هنا، لا توجد خيارات أخرى”.
ومع إخلاء المخيمات ليست لدى الحكومة خطة للعوائل ذات الصلة بداعش من زوجات وأرامل وأمهات أعضاء التنظيم اللاتي يواجهن التمييز ويخشين الانتقام.
وقالت سهى أحمد من مخيم ليلان، إنها لا تستطيع العودة إلى قريتها جنوبي كركوك. فعلى الرغم من أنها تبرأت رسميا من زوجها الداعشي، إلا أن قبيلتها لم تقبل عودتها. كما تخشى وجود نقطة تفتيش قريبة يديرها رجال الميليشيات الشيعية. وأضافت سهى، وهي أم لخمسة أطفال أصغرهم في الثالثة من عمره، “لا أعرف إلى أين أذهب”.
وفي نينوى، بقيت ألفا عائلة مرتبطة بداعش عالقة. ويتوقع داود أن يتم جمعها في مخيم جادة 5. ولا يعرف ماذا سيحدث بعد ذلك. وقد حققت المفاوضات التي تقودها الحكومة مع القبائل المحلية لتسهيل العودة بعض النجاح. لكن العودة إلى مناطق أخرى لا تزال بعيدة المنال.
وفي مدينة سنجار، لا تزال ذكريات تدمير مقاتلي داعش لقرى الإيزيديين المؤلمة واصطفاف الرجال لإطلاق النار عليهم واستعباد الآلاف من النساء حاضرة.
وقالت سهاد داود، التي نجت من أهوال داعش، إنها لن تقبل عودة العائلات العربية السنية. وتابعت “نحن نرفض أن تعيش تلك العائلات بيننا مرة أخرى.. لقد خانتنا”.
وقال الشيخ محمد إبراهيم، أحد زعماء العشائر السنية في قرية خيلو جنوبي سنجار، إن أبناء أعضاء داعش ممنوعون من العودة. وتابع “يريد أي شخص قُتل أحد أفراد أسرته الانتقام بالدم. لا نريدهم أن يعودوا، لا نريد أن نراهم، سواء كانوا رجالا أم نساء أم أطفالا”.
وعلى الرغم من هذه الاعتراضات الحادة، تبقى الحكومة ملتزمة بإغلاق جميع المخيمات. وقال الجبوري “إذا بقيت هذه العائلات في المخيمات فسيولد جيل جديد من داعش في العراق. إنها بحاجة إلى الاختلاط بالناس. تحتاج إلى تغيير رأيها”.
العرب