على قسوة عام الجائحة 2020، لم تغب عن العام الذي أوشك على الانقضاء تطورات إيجابية عالميا وعربيا. للمرة الأولى في التاريخ الإنساني، ينجح العلم في التخليق السريع للقاحات آمنة تواجه فيروس كورونا وحتما ستحد تدريجيا من خطر الموت الذي حمله إلى كل نواحي المعمورة في 2020.
بضعة أشهر وليس بضع سنوات استغرقها تخليق مختبرات علمية في ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا والصين وروسيا للقاحات، وبضعة أسابيع وليس بضعة أشهر استغرقها توزيع الجرعات الأولى للقاحات وحصول الفئات الأكثر تعرضا لخطر الموت والمرض في بعض بلدان العالم عليها. سيتواصل التوزيع العالمي لجرعات اللقاحات خلال العام الجديد، وأغلب الظن أن اختلاف معدلات التقدم والتأخر وحظوظ الغنى والفقر وحقائق الاستقرار والفوضى لن تمنع دون حصول سكان البلاد الفقيرة والمنكوبة بالحروب الأهلية وحرائق الإرهاب والعنف وانتهاكات حقوق الإنسان على اللقاح وذلك لاستحالة تحقيق «مناعة القطيع» عالميا ومن ثم القضاء على الجائحة إذا ما تم استبعاد الفقراء والمنكوبين.
شهد 2020 أيضا اضطلاع أغلبية حكومات بلدان العالم بمسؤولية مواجهة الأخطار الصحية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية التي صعقت بها الجائحة البشر. من الصين والهند وأستراليا مرورا بأوروبا والقارة الإفريقية ووصولا إلى الأمريكيتين، تشابهت القرارات الحكومية والتشريعات البرلمانية مطبقة لبروتوكولات الحجر والعزل الصحيين المقترحين من منظمة الصحة العالمية ومغلقة للفضاء العام وموقفة للنشاط الاقتصادي ولتنقل الدراسة في المدارس والجامعات إلى الفضاء الافتراضي وتوقف النشاط الرياضي ثم تسمح به دون حضور جماهيري ولترفع وفقا للإمكانات المتاحة من الطاقات الاستيعابية لدور الرعاية الصحية وتوفر سبل الحماية للأطقم الطبية ولتمرر حزم المساعدات الاقتصادية والاجتماعية للفئات الأكثر تضررا ومعاناة. قطعا، تفاوتت نجاعة القرارات والتشريعات بين حكومات تمتلك الموارد والسلطات الضرورية لفرض إرادتها على المجتمعات وبين حكومات ذات موارد محدودة وتفتقد مؤسساتها الرسمية المعنية بتنفيذ القرارات وإنفاذ القوانين لشرعية القبول الشعبي. في 2020، لم تكن التفاوتات فيما خص نجاعة الحكومات ترجمة للاختلافات بين المواصفات الديمقراطية وطبائع الاستبداد والسلطوية، بل كانت تعبيرا خالصا عن الهوة الساحقة الفاصلة بين الحكومات القوية والحكومات الضعيفة. نجحت الصين غير الديمقراطية بمؤسساتها القوية في السيطرة السريعة على انتشار فيروس كورونا، وتشابهت معها ألمانيا ذات التنظيم الفيدرالي الديمقراطي التي انتزعت فيها حكومة المستشارة ميركل مكنة الفعل السريع من حكومات الولايات الألمانية بل ومن البرلمان الاتحادي. وفشلت الولايات المتحدة، صاحبة الديمقراطية الكاملة الأقدم في العالم وبسبب حالة الإنكار والانقسام والتخبط والضعف التي فرضتها إدارة ترامب على الحكومة الفيدرالية، في احتواء الجائحة والحد من معدلات الإصابة ومن الأرقام المفزعة للموتى مثلما فشلت حكومات بريطانيا وإيطاليا الديمقراطية وحكومة البرازيل المتأرجحة بين الديمقراطية والشعبوية والحكومات السلطوية المأزومة في فنزويلا وإيران وتركيا.
سيظل 2020 حاضرا في ذاكرتنا الجمعية كعام قسوة الموت والمرض ورحيل الأهل والأصدقاء والزملاء دون وداع، كعام قسوة التباعد الاجتماعي على كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة كما على الأطفال والشباب
ولم يكن عالمنا العربي ببعيد عن هذه التفاوتات التي حددت فرص النجاة من الموت والمرض، وتحكمت في احتمالات الخروج من دوامات المعاناة الاقتصادية والاجتماعية. تميزت حكومات بلدان مجلس التعاون الخليجي بمواردها الوفيرة وقطاعاتها الصحية الحديثة، وتميزت أيضا حكومات المغرب والجزائر ومصر بالتمرير السريع لحزم المساعدات الاقتصادية والاجتماعية. في المقابل، أظهرت الجائحة وأخطارها وتحدياتها عجز حكومات الحروب الأهلية والفوضى والعنف في ليبيا وسوريا واليمن بمؤسساتها المنهارة وكذلك عجز حكومة الطوائف في لبنان ذات الواجهة الديمقراطية الزائفة، عجزهم عن تقديم الحد الأدنى من الخدمات الصحية وعن الاضطلاع ولو بشق صغير من الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين.
في حوليات الإنسانية المعاصرة، سيكون عام 2020 صاحب موقع هام فيما خص اكتشافنا جميعا للطاقات والإمكانات والفرص الكثيرة التي يحملها الفضاء الافتراضي. لم تكن يوميات التعليم المدرسي والجامعي ولا يوميات العمل في شركات التكنولوجيا والإتصالات والخدمات هي التي انتقلت فقط إلى الفضاء الافتراضي، بل أيضا جوانب كثيرة لخدمات الرعاية الصحية والنفسية للمحتاجين وخدمات التأهيل العلمي والأكاديمي والمهني للمتخصصين. ومع أن غياب التلاميذ والطلاب عن قاعات الدرس أفقد التعليم المدرسي والجامعي شق التواصل الإنساني المباشر مثلما افتقدته جموع العاملين من المنازل ومتلقي العلاج في المنازل والمتدربين بعيدا عن المكاتب، إلا أن شيئا من الترشيد المالي والفاعلية الاقتصادية والحرص على البيئة ارتبط بالانتقال إلى الفضاء الافتراضي. على سبيل المثال وفي مجال عملي، الحياة الأكاديمية، اكتشفنا جميعا عبث إهدار الأموال في تنظيم مؤتمرات وورش عمل وحلقات النقاش التي يسافر لها بعض من يشارك فيها بالطائرات ويشغلون بها غرف في فنادق مرتفعة الأسعار ويتنقلون خلالها بالسيارات والحافلات وفي كل تلك الخطوات يرفعون أيضا من معدلات التلوث البيئي بينما من اليسير جدا تنظيم المؤتمرات والورش والحلقات في الفضاء الافتراضي بتكلفة مالية محدودة وبتجنيب البيئة للمزيد من التلوث.
نعم، سيظل 2020 حاضرا في ذاكرتنا الجمعية كعام قسوة الموت والمرض ورحيل الأهل والأصدقاء والزملاء دون وداع، كعام قسوة التباعد الاجتماعي على كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة كما على الأطفال والشباب ومن صارت الوحدة حقيقة حياتهم الكبرى أو حالت ظروفهم الشخصية وأحوال بلدانهم دون وجودهم مع ذويهم في ذات البقعة المكانية. غير أن 2020 هو أيضا عام إبداعنا الإنساني للتحايل على عقبات وصعوبات التواصل مع من نحب والحفاظ على علاقات الحب والمودة الأسرية والصداقة والزمالة، هو عام «زووم» و»فيس تايم» وغيرهما من البرامج التي مكنتنا من رؤية القريبين منا والنجاة بروابطنا الشخصية والأسرية والمهنية. حتما تفاوتت حظوظ النجاح والفشل بيننا كبشر مثلما اختلفت أقدار الموت والمرض والحزن، إلا إننا أدركنا في 2020 القيمة الحقيقية للحب والمودة والصداقة والزمالة وتعلم بعضنا دروسا قاسية بعد أن أهمل من أحب وصادق وزامل.
وداعا 2020، على أمل أن ترحل معك الجائحة ومشاهدها المؤلمة وأن تبقى معنا التطورات الإيجابية والدروس المستفادة التي دفعنا كإنسانية معاصرة ثمنها موتا ومرضا وحزنا.
عمرو حمزاوي
القدس العربي