استقلال الدولة العربية في كنف سايكس بيكو

استقلال الدولة العربية في كنف سايكس بيكو

350

في غمرة المخاوف التي تثيرها الأوضاع الأمنية في المنطقة العربية، برزت تساؤلات كثيرة حول احتمالات سقوط نظام سايكس- بيكو، أي تشطير وتفتت الدول العربية القائمة وخاصة في المشرق العربي. ولم تكن في هذه التساؤلات مبالغة أو مخاوف في غير محلها. ففي العراق وسوريا واليمن وليبيا يرى البعض أن التقسيم واقع وأن السؤال الذي يتطلب الإجابة الواعية هو عما إذا كان من الواقعي أو المستطاع إعادة توحيد هذه البلدان في دول واحدة أي إحياء نظام سايكس بيكو.

تنطوي هذه التساؤلات، في العديد من الحالات، على نقد غير مباشر ومخفف للمشاريع والنظريات السياسية التي لطالما تحفظت ولا تزال على نظام سايكس- بيكو وتطالب باستبداله بنظام بديل «ميناوي» بزعامة أمريكية، أو متوسطي بزعامة أوروبية، أو أوسطي بزعامة «إسرائيلية» أو تركية.

أما النقد المكثف فقد خصص لمشاريع الوحدة العربية الطابع. فهذه المشاريع شكلت على مدى القرن الفائت، في رأي الناقدين، التحدي الأكبر للدولة العربية الوطنية التي نمت تحت كنف اتفاق سايكس- بيكو. وهذه المشاريع هي التي فتحت الباب أمام تحديات أخرى: ألا يمكن اعتبار التحدي الداعشي للدولتين العراقية والسورية واحدًا من هذه التحديات؟

إضافة إلى ذلك يلاحظ أصحاب هذه الأسئلة أن دعاة المشروع العربي تحولوا اليوم إلى مدافعين متحمسين عن الدولة العربية الوطنية، والى مطالبين بالتيقظ إزاء المشاريع «الإسرائيلية» المفترضة لتفتيت هذه الدولة/الدول وتذريرها. ويثير هذا التحول المزيد من التساؤلات والانتقادات الموجهة إلى معارضي سايكس-بيكو. وفي هذه الانتقادات أنه كان حرياً بالعروبيين الذين دأبوا على انتقاد سايكس-بيكو وعلى النظام الذي أنجبه أن يعملوا داخل دوله على النهوض بها سياسياً واقتصادياً وثقافياً بحيث ترعى مصالح المواطنين وتحقق طموحاتهم بأيسر الطرق. ألم تسر العديد من الدول التي وضعت تحت الانتداب والوصاية والحماية الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى على هذا الطريق فتحولت، مع مضي الوقت، إلى مجتمعات مزدهرة؟ ألا يصح بعد هذه التجارب أن نمحض الدول التي ننتمي إليها الولاء الكامل وأن نسعى إلى الارتقاء بها إلى مستوى طموحاتنا؟
في لبنان ذهب البعض إلى ما هو أبعد من مجرد إثارة هذه التساؤلات، أي للدعوة إلى إضفاء الشرعية الوطنية على سايكس- بيكو وعلى نتائجه ، وأولها وأهمها كان إعلان «دولة لبنان الكبير» في الأول من سبتمبر/أيلول 1920، جاء ذلك في ذكرى الإعلان وفي الدعوة إلى تحويلها إلى مناسبة وطنية يتخللها العديد من الأنشطة الرامية إلى تكريس أهمية هذا الحدث وإجلاء معانيه ودروسه والتمثل بأبطاله. اعتبر القائمون على هذه الدعوة أنها تعبير عن محبة لبنان والإيمان به، وأن هذه الدعوة جديرة بأن تقود اللبنانيين إلى الخلاص من واقعهم المتردي الراهن.
تمثل هذه الواقعة الأخيرة نمط المقاربة الخاطئة للمتغيرات التي ألمت بالمنطقة والتي أثرت، بالطبع، في كل دولة من دولها ومنها لبنان. إنها مقاربة تتجاهل الطابع الرئيسي للحدث الذي أعلنه والسياق الذي جاء فيه، وتتجاهل معاناة اللبنانيين وتضحياتهم وسعيهم من أجل قيام نظام حكم يمثل الجميع فيرسّخ الديمقراطية والعدالة، ودولة تبحر بسلام في السياسة العربية وتكون قادرة على حماية أمنها وسيادتها اعتماداً على قواها الذاتية.
تنطلق هذه المقاربة من الخلط بين نظامين إقليميين مختلفين: الأول هو نظام سايكس- بيكو الذي كان نظاماً أوروبياً محضاً، أي أنه كان خاضعاً كلياً لسيطرة الحكومات الأوروبية الأربع: فرنسا، بريطانيا، إيطاليا وإسبانيا. وهذه الدول هي التي قررت للدول التابعة لها هويتها. وهذا الاختيار لم يكن رمزياً وإنما كانت له تبعاته على كل صعيد. كانت له تبعاته ونتائجه على صعيد حقوق الأفراد والجماعات الثقافية والدينية والطبقية والسياسية التي يتكون منها المجتمع، وعلى صعيد المصالح الاقتصادية والأدوار الجيو سياسية التي تضطلع بها الدولة وعلاقاتها الدولية والإقليمية.

لقد اختارت فرنسا للبنان هوية لم يخترها اللبنانيون لأنفسهم عندما حيا الجنرال الفرنسي غورو لحظة إعلان دولة لبنان الكبير «اتحاد فرنسا ولبنان إلى الأبد». استجابت هذه الصيغة لمطالب أقلية ناشطة من اللبنانيين وتجاهلت مطالب أكثر اللبنانيين الذين أرادوا إنهاء نظام الانتداب والاستقلال عن فرنسا وتوطيد علاقات بلادهم بدول المشرق العربي وأبلغوا لجنة كينغ كرين الدولية هذه الرغبة، وعبروا عن هذه المطالب في المذكرة التي حملها بعض أعضاء مجلس متصرفية جبل لبنان إلى الحكومة العربية، وفي مطالبات المؤتمر السوري العام، وفي المؤتمر الوطني الكبير الذي نظمته البطريركية المارونية عام 1941.

النظام الإقليمي الثاني هو النظام العربي الذي خرج إلى الوجود في الوقت نفسه الذي خاض فيه لبنان معركة استقلاله وتحرير إرادته من الهيمنة الأجنبية. ابتداء من عام 1945 أخذ النظام الإقليمي العربي في الحلول محل نظام سايكس- بيكو. ومنذ تلك الفترة تسارعت التغييرات السياسية داخل الدول العربية وبينها. وهكذا وجد الكثيرون من الوطنيين العرب الذين كانوا يقاطعون دول سايكس- بيكو أن وضعاً جديداً قد نشأ يسمح بنمط آخر من العلاقة مع هذه الدول. في هذا السياق سبقت ولادة الاستقلال اللبناني والنظام الإقليمي إعادة تنظيم البيت اللبناني بحيث وضع اللبنانيون حداً لسياسة الإقصاء التي مارستها السلطات المنتدبة فيه، وطبق مبدأ المشاركة الوطنية والديمقراطية بين مكوناته الأساسية. وتمكنت حكومة لبنان المستقل من لعب دور مؤثر في وضع المبادئ الأساسية وصياغة ميثاق النظام الإقليمي.

هناك فرق كبير بين ولادة «دولة لبنان الكبير» التي أعلنها المحتل عام 1920، وبين قيام الجمهورية اللبنانية المستقلة التي أعلنت عام 1943. الأولى تمت استجابة إلى مصالح أجنبية ومعها فريق محدود من اللبنانيين. الثانية تمت استجابة إلى مصالح أكثرية اللبنانيين وبعد إجراء انتخابات عامة توفر فيها مقدار عال من الحرية للناخب اللبناني. الأولى أرادت للبنان أن يلعب دور العداء للعرب، أما الثانية فحولت لبنان إلى فاعل نشيط في السياسة العربية. بين الولادة الأولى والثانية عمل اللبنانيون الذين يحبون لبنان حقاً والذين لم يكنّوا العداء لفرنسا على تخليص الفرنسيين واللبنانيين معاً من سياسة الانتداب ومن سياسة التسلط، وعلى قيام علاقات معاً أفاد منها الجميع. من يحرص على لبنان حقاً حري به أن يعبر عنه يوم ولادته الحقيقية يوم حقق استقلاله عام 1943.

  د.رغيد الصلح

صحيفة الخليج