جانب القائد الفرنسي الصواب حين قال قبل حوالي قرنين من الزمن، “عندما تستيقظ الصين، سوف يهتز العالم”. فاليوم، وبعد عقود من التخطيط والاستثمار، أصبح لكل خطوة تخطوها الصين، التي يبلغ عدد سكانها 1.3 مليار نسمة ويحتل اقتصادها المرتبة الثانية عالميا، تأثير كبير على العالم، وأحدث دليل على ذلك، الأزمة الاقتصادية العالمية التي تسبّب فيها الخبر عن انهيار السوق المالية الصينية قبل حوالي ثلاثة أسابيع، والمخاوف التي أثارها تراجع قيمة اليوان الصيني، خصوصا في الدول الأفريقية التي يرتكز جزء كبير من اقتصادها وبنيتها التحتية على الشراكة الصينية.
ورغم أن الصين لم تصل بعد إلى درجة قلب الموازين العالمية. وقوّتها مستمدّة من ساساتها الاقتصادية والاستثمارية، إلا أن ذلك لا ينفي نجاحها في بسط نفوذها وترسيخ تواجدها كقوة اقتصادية عالمية، تدفع المحللّين والخبراء إلى التساؤل عن الدور الإقليمي والعالمي الذي تتطلع الصين للعبه؟ وما هي التكتيكات التي تعتمدها لبلوغ طموحاتها، خاصة وأنها بدأت في السنوات الأخيرة تتخلّى عن سياسة الحياد وعدم التدخّل العلني في شؤون الدول؟
منذ عام 1978، استفادت الصين كثيرا من النظام العالمي القائم، حيث فتحت أبوابها أمام الاستثمار العالمي والتجارة الدولية والإنتاج الإقليمي، وفي المقابل نجحت في اكتساح الأسواق العالمية النامية التي تجاهلتها القوى التقليدية.
وبعد عقود من الزمن أصبحت عبارة “صنع في الصين” رمزا للسياسة الاقتصادية الصينية، التي يصفها بعض الخبراء بـ”دبيب النمل”، حيث نجحت الصين في أن ترسّخ أقدامها كقوّة اقتصادية باتباع سياسة ناعمة وهادئة نجحت في أن تكون ثاني أقوى اقتصاد في العالم دون إحداث ضجّة.
وجدت بكين في التوجه إلى أفريقيا متنفسا اقتصاديا وسياسيا لها، وهي التي تبحث عن فرصتها المشروعة لتقف في مصاف الكبار، وتبحث عن صغار تبسط نفوذها المتنامي عليهم، والصغار هنا هي الدول الأفريقية الفقيرة التي ترزح تحت طائل من الأزمات السياسية والاقتصادية والتي تعجز عن شراء البضائع الأوروبية والأميركية، والواقع بعضها تحت طائل عقوبات دولية فرضت عليها. كما أن الصين لا تضع، وهي تستثمر في أفريقيا، شروطا تتعلق بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والديمقراطية كما هو حال الدول الغربية.
في هذا السياق، يأتي السودان كأحد أبرز الأمثلة التي تقدّم للحديث عن الاستيطان الاقتصادي الصيني في أفريقيا وتداعياته وإيجابياته وسلبيّاته، حيث يمثّل السودان، المفروضة عليه عقوبات دولية، وصادرة بحقّ رئيسه بطاقة إيقاف دولية، أرضية خصبة للاستثمار الصيني، وحليفا هاما يساعد بكين في الحفاظ على نفوذها في الداخل الأفريقي.
شراكة استراتيجية مع السودان
مع وصول البشير، إلى السلطة عام 1989، وتبنيه أيديولوجيا إسلامية مناهضة للغرب، سارعت الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن، للتضييق عليه.
ولم تكتف حكومة البشير في مهدها بترديد شعارات مثل “الطاغية الأميركان”، بل استضافت زعماء جماعات إسلامية معادية للغرب، مثل مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، عام 1991، وهو ما مهد إدراج الخرطوم على القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب في 1993.
تبع ذلك، فرض عقوبات أميركية قاسية على السودان عام 1997، وسط دعم لخصومه السياسيين، وحركة التمرد التي كانت تقاتل في جنوب البلاد، ذي الأغلبية المسيحية، مقابل الأغلبية المسلمة في الشمال.
وأول ما ترتب عن ذلك، كان منح الصين، حق استكشاف وإنتاج النفط الذي تعطلت عمليات استخراجه بعد انسحاب الشركات الغربية وعلى رأسها “شيفرون” الأميركية من عموم السودان.
وبالفعل نجحت بكين في استخراج النفط، من حقول في الجنوب البلاد، بعد أن أنفقت مليارات الدولارات في تجهيز البنية التحتية اللازمة لتشغيل القطاع النفطي، وصدّرت أول شحنة منه في العام 1999.
وبعدها بدأ الاقتصاد السوداني في الازدهار، بعد سنوات من التردي الذي لازم قطاعات حيوية مثل الزراعة والصناعة والنقل، بسبب العقوبات الأميركية التي حرمت البلاد من مدخلات الإنتاج من آليات وقطع غيار، علاوة على حظر الحركة المصرفية من وإلى السودان.
ومع توفر عملات صعبة للخزينة العامة من عائدات النفط الذي كان يصدر للصين، وسعت الخرطوم شراكتها التجارية مع بكين، لتصبح أكبر شريك تجاري لها، فضلا عن كونها ثاني أكبر شريك تجاري لها في أفريقيا بعد جنوب أفريقيا (لاحقا تراجعت إلى المرتبة الثالثة).
ورغم أن الحكومة كانت ولا تزال تجادل بأن شراكتها مع بكين عوضت الكثير من خسائرها جراء العزلة الغربية، إلا أن أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم، حاج حمد، يقول إن “هذه الشراكة كانت على الدوام لصالح الصين أكثر منها لصالح السودان”.
فالصين عندما دخلت السوق السوداني “وجدته خاليا من المنافسين، وهو ما ترتب عليه تدني جودة منتجاتها على نقيض منتجاتها ذات الجودة القياسية التي تصدرها إلى الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة”، وفقا لما قاله حمد.
ويؤيد أستاذ الاقتصاد بالجامعات السودانية، محمد إبراهيم كبج، ما ذهب إليه حمد، ويضيف له سببا آخر، وهو أن “سياسات الحكومة كانت على الدوام تضخمية، ما أضعف القوة الشرائية للجنيه السوداني، ولم يعد بالإمكان سوى استيراد السلع الرخيصة من الصين”.
وغالبية السلع المستوردة في الأسواق السودانية من الآليات الثقيلة إلى المعلبات الغذائية تأتي من الصين، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 5 مليارات دولار، وفقا لبيانات وزارة المالية.
ويشير حمد إلى أنه “حتى القروض التي منحتها الصين لتشييد مشاريع بنية تحتية لازمتها شروط، بأن تنفذ هذه المشاريع شركات صينية، ما يوضح ضخامة مكاسب بكين على حساب الخرطوم”.
ولا تقتصر المآخذ على شراكة الخرطوم مع بكين على جودة المنتجات بل تتعداها إلى عدم انخراط الصين في استثمارات حيوية بالبلاد، وتركيزها على قطاع النفط، الأمر الذي حول اقتصاد السودان إلى “اقتصاد ريعي يعتمد على مصدر واحد”، بحسب ما قاله كبج.
وتزيد الاستثمارات الصينية في السودان على 11 مليار دولار، أغلبها في قطاع النفط، وفقا لإحصائيات نشرتها وزارة المالية، العام الماضي. ويضيف كبج “لو استثمرت الصين في قطاعات إنتاجية حيوية مثل القطاع الزراعي بموارده الطبيعية الضخمة لما تعرضت البلاد للأزمة الاقتصادية التي تلت انفصال الجنوب وفقدان عائدات النفط”.
ولا يرى أستاذ العلوم السياسية، حاج حمد، أن الخرطوم قد استفادت من شراكتها مع الصين بدليل أنها “لم تستخدم حق النقض (الفيتو)، في كل القرارات التي أصدرها مجلس الأمن الدولي ضد السودان”.
ويشير إلى “اكتفاء الصين بالامتناع عن التصويت عندما قرر مجلس الأمن الدولي إحالة ملف الحرب الأهلية في إقليم دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2005”.
وترتب على قرار مجلس الأمن، إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي توقيف بحق الرئيس البشير، بتهمة “ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وإبادة جماعية في العامين 2009 و2010”.
ومن القرارات التي يستدل بها حمد أيضا “عدم معارضة الصين لقرار مجلس الأمن الدولي عام 2007 نشر قوات حفظ سلام دولية عوضا عن القوات التابعة للاتحاد الأفريقي في إقليم دارفور، حيث يحارب الجيش 3 حركات مسلحة منذ 2003”. ووقتها توسطت الصين لإقناع الخرطوم الرافضة للقوات الأممية بالقبول بقوات مشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، نُشرت فعليا مطلع العام 2008، ولا تزال الحكومة تتحفظ على وجودها بالإقليم.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية الناجمة عن فقدان عائدات النفط التي ذهبت لدولة جنوب السودان الوليدة، نشطت حكومة الخرطوم زيارات مسؤوليها إلى بكين، وكانت من أبرز نتائجها حصول الخرطوم على قرض صيني بقيمة 1.5 مليار دولار، مطلع العام 2013، قال وزير المالية، علي محمود، حينها إن المبلغ سيستخدم “لسد عجز الميزانية، وتعزيز ميزان المدفوعات”.
توجت هذه المساعي بزيارة الرئيس البشير إلى الصين مطلع الشهر الجاري، والتي استمرت 6 أيام، وقّع خلالها مع نظيره الصيني، على حزمة اتفاقيات ضمن وثيقة شراكة وصفها وزير الخارجية إبراهيم غندور، الذي رافق البشير، ضمن عدد من وزارئه بأنها “استراتيجية”. وشملت الاتفاقيات منح الصين حق استخراج النفط من حقول جديدة لمضاعفة إنتاج البلاد الحالي الذي يبلغ نحو 140ألف برميل يوميا، علاوة على عقود لاستخراج الغاز الطبيعي.
ومن الاتفاقيات، تزويد السودان على مدار ثلاث سنوات بطائرتي إيرباص، وثلاث طائرات نقل داخلي، إلى جانب 9 بواخر، وقطارين، مع تشييد خط سكة حديد بطول ألف كيلو متر. وبفعل العقوبات الأميركية، تدهور قطاع النقل الجوي في السودان، وكذلك شبكة السكة الحديد التي تُعد من أطول الشبكات في أفريقيا بطول يزيد عن 5 آلاف كيلو متر.
ومن مكاسب زيارة البشير للصين، وفقا لتصريحات مسؤولين، تجاهل بكين لمطالبة واشنطن عدم استقباله على خلفية ملاحقة المحكمة الجنائية له، حيث كانت زيارة الرجل هي الأبعد له منذ 2011.
لكن أستاذ العلوم السياسية حاج حمد، يرى أن هذه الاتفاقيات “لن تحدث تحولا في الاقتصاد، لأنه لم يطرأ جديد على شكل التعاقدات، كما أن التركيز لا يزال قائما على النفط”. بينما يجزم الخبير الاقتصادي كبج بأن “تعزيز الشراكة مع الصين لن يكون حلا للأزمة الاقتصادية التي تحتاج لحل سياسي يتمثل في تسوية النزاعات الداخلية وإصلاح العلاقات الخارجية مع الدول الغربية”.
استثمار أم استغلال
تعتبر العلاقات السودانية الصينية نموذجا مصغّرا للعلاقات بين بكين والدول الأفريقية الأخرى، التي غزاها الصينيون بداية بصناعتهم غير المكلفة، ثم بالقروض والمساعدات المالية والبنى التحتية والمستشفيات وصولا إلى تنظيم المنتديات المشتركة.
ومن أبرز الدول المستفيدة من التبادل التجاري الصيني الأفريقي أنغولا بحجم تجارة بلغ 17.66 مليار دولار، ثم جنوب أفريقيا بحجم تجارة بلغ 16.6 مليار دولار، ثم السودان بحجم تجارة بلغ 6.39 مليارات، ومصر 5.86 مليارات، ونيجيريا 6.37 مليارات.
وتجاوز التبادل التجاري الصيني الأفريقي على الـ200 مليار دولار بعد ما كان في حدود مليار دولار في السبعينات، لتصبح صادرات أفريقيا إلى الصين ضعفي الصادرات إلى الولايات المتحدة وأربعة أضعاف الصادرات الأفريقية إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن، في السنوات الأخيرة، بدأ هذا النمو الهائل في العلاقات الاقتصادية والتجارية الصينية الأفريقية يثير المخاوف والشكوك حول حقيقة التواجد الصيني المكثف في القارة السمراء بالتحديد، وصل إلى حد اتهام الصين بممارسة شكل من الاستعمار الجديد، إلا أن الحكومة الصينية تدعي في دحضها لهذه الاتهامات أن “هدف الصين من مساعدتها إفريقيا هو تعزيز قدراتها التنموية”، مستشهدة بالمثل الصيني الشهير “تعليم شخص صيد السمك أفضل من إعطائه السمك”، لكن بعض المراقبين يؤكدون أن الصين تساعد الأفارقة في اصطياد ما لديهم من أسماك دون أن تجرأ على تعليمهم فنون الصيد.
فهذا التنين القادم من آسيا فاتحا فاه لينهل من خيرات القارة السمراء، مغريا حكوماتها باستثمارات هائلة، يمكن أن يتسبب في ضرر وتوتّر أكثر مما هو متوقع، حيث أن الاستثمار الصيني صاحبه استعمال واسع لليد العاملة الصينية وليس الأفريقية التي تعاني من البطالة، كما صاحبه كذلك تزايد في الهجرة الصينية إلى أفريقيا فضلا عن عدم جودة السلع الصينية التي غزت الأسواق الأفريقية بما يجعل المراقبين يعتبرون النفوذ الصيني في أفريقيا بديلا استثماريا واستعماريا حلّ محل المستثمر والمستعمر الأوروبي.
صحيفة العرب اللندنية