في مساء 31 ديسمبر/كانون الأول 2020 وتحديدا بحلول الساعة الحادية عشرة بتوقيت غرينتش، ومنتصف الليل بتوقيت غرب القارة الأوروبية، خرجت بريطانيا فعليًّا من الاتحاد الأوروبي، بعد قرابة نصف قرن من عضوية السوق الأوروبية المشتركة، ومن ثم الاتحاد الأوروبي. كان موعد الخروج قد حُدد مسبقا في نهاية الفترة الانتقالية، بعدما أعطت أغلبية بريطانية ضئيلة صوتها لصالح خيار الخروج -أو ما عرف بالبريكست- في استفتاء صيف العام 2016. وللتداخل بالغ التعقيد في حقول التجارة والمال والأمن والبحث العلمي بين بريطانيا وأوروبا، كان تحدي البريكست الأكبر يتمثل في توصل الطرفين إلى اتفاق يحل محلّ علاقات العضوية، قبل أن يحلّ موعد الخروج الفعلي.
في 24 ديسمبر/كانون الأول، وقبل يوم واحد من عيد الميلاد طبقا للكنائس الغربية، أُعلن أخيرًا عن التوصل إلى اتفاق بين الفريقيْن التفاوضيين في بروكسل، مقر مؤسسات الاتحاد الأوروبي الرئيسية. ولكن مخاض الاتفاق الذي عُرف باسم اتفاقية التجارة والتعاون، كان عسيرًا بالفعل. فبالرغم من أن المفاوضات حول الاتفاق استمرت بصورة حثيثة زهاء العام، وأن معظم القضايا تم الاتفاق عليها بصورة مبكرة، فإن عددًا من الملفات الحرجة ظلت عقبة تهدد بفشل المفاوضات حتى الساعات الأخيرة من التفاوض. فكيف تم التوصل إلى الاتفاق؟ ولماذا كان الخروج البريطاني بلا اتفاق باهظ التكاليف؟ وأيُّ اتفاق هذا الذي تم التوصل إليه؟ ولماذا لا ينبغي الاستماع لادعاءات رئيس الوزراء البريطاني المتفائلة حول حجم ما حققته بلاده من الاتفاق؟ ماذا خسرت أوروبا بخروج بريطانيا؟ وكيف سيعمل الخروج على إحداث متغيرات ملموسة في علاقات بريطانيا الدولية؟
المخاض العسير لاتفاقية التجارة والتعاون
في 21 ديسمبر/كانون الأول 2020، قررت فرنسا إغلاق كافة المنافذ الحدودية مع بريطانيا، بعدما أعلنت سلطات الأخيرة اكتشاف سلالة جديدة من فيروس “كوفيد-19″، أسرع انتشارًا من السلالة السائدة التي تسببت في الجائحة الهائلة للمرض منذ بدايات العام 2020. خلال ساعات، بدأت عربات نقل البضائع التي تتحرك بين بريطانيا والقارة الأوروبية عبر ميناءيْ “دوفر” البريطاني و”كاليه” الفرنسي، في التجمع على الطرق وساحات الانتظار في مقاطعة “كنت” على مشارف “دوفر”. بعد أيام قليلة، أصبح مشهد آلاف العربات المتوقفة في الطريق إلى “دوفر” مثيرًا للرعب والقلق، ودارت شائعات حول مواجهة بريطانيا نقصا في عدد من المواد الغذائية وأصناف الدواء المستوردة من القارة. اضطر رئيس الوزراء بوريس جونسون بعد ذلك إلى الاتصال بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإيجاد حلٍّ وفتح الحدود من جديد، ولكن أزمة الأيام القليلة التالية لقرار إغلاق الحدود الفرنسية جسّدت مخاطر الخروج بلا اتفاق أمام المسؤولين البريطانيين كما لم تفعل أية إنذارات من معارضي البريكست من قبل.
على أية حال، كان جونسون الذي لعب دورًا رئيسيًّا في كسب استفتاء 2016، يدرك أن تكاليف الخروج بلا اتفاق ستكون باهظة، وأن تعقيدات البريكست التي أطاحت برئيسيْ حكومة منذ العام 2016، قد تطيح به هو أيضًا إن خرجت بريطانيا بلا اتفاق. خلال الأسبوع السابق للتوصل إلى اتفاق، لا سيما بعد إغلاق الحدود مع فرنسا، أجرى جونسون اتصالات هاتفية يومية مع رئيسة المفوضية الأوروبية، في جهد مستمر لتجاوز العقبات المتبقية، وخاصة ملفات صيد الأسماك في المياه البريطانية، التي رأت لندن أنها تتعلق بجوهر سيادتها على مياهها الإقليمية، وملف المنافسة العادلة وحفاظ بريطانيا على المعايير الأوروبية في صناعاتها، إضافة إلى ملف التحكيم في حالة وقوع خلاف مستقبلي بين الطرفين.
كانت بريطانيا قد قدمت تنازلا جوهريًّا مسبقًا فيما يتعلق بالحدود داخل الجزيرة الإيرلندية، وقبلت أن تستمر حرية الحركة والبضائع بين مقاطعات شمالي إيرلندا البريطانية، وبين جمهورية إيرلندا التي ستبقى عضوًا في الاتحاد الأوروبي. وبالتالي قبلت لندن أن تكون حدود الجزيرة البريطانية مع الجزيرة الإيرلندية برمتها في البحر الفاصل بين الجزيرتين. أما بخصوص ملفات الخلاف الأخيرة، فقد اضطر الطرفان لتقديم تنازلات متكافئة تقريبًا للتوصل إلى اتفاق، فقد وافقت بريطانيا على الحفاظ على المعايير الأوروبية في منتجاتها المصدّرة إلى دول الاتحاد الأوروبي، وقبِل الطرفان بفترة زمنية انتقالية وسطية لحل مسألة صيد الأسماك وسيادة بريطانيا على مياهها الإقليمية. وبرفض لندن الخضوع للمحكمة الأوروبية في حال نشوب خلاف مستقبلي، وافق الطرفان على تشكيل هيئة تحكيم مستقلة للتقرير في شأن الخلافات المحتملة.
اتفاق محدود وخروج لم يزل صعبًا
كان الجدل الذي سيطر على الأوساط البريطانية الرسمية والرأي العام بعد استفتاء 2016، قد تمحور حول ما إن كانت بريطانيا ستحقق خروجًا -من العلاقة مع أوروبا- ناعمًا وسلسًا، أو صعبًا. بمعنى: هل سيأتي البريكست لبريطانيا بمردودات الخروج الإيجابية في حقول السيادة، وتوقف لندن عن تقديم المليارات للمساهمة في ميزانية الاتحاد الأوروبي، وحرية عقد اتفاقيات تجارية مع دول أخرى، ويحافظ على مزايا العضوية، سيما في مجالات المال والاقتصاد والتجارة والسفر، في الوقت نفسه؟ الواقع أن النتائج جاءت أقل من توقعات الخروج السلس، وإن خففت بصورة ملموسة من عواقب الخروج. وقد وُضعت اتفاقية التجارة والتعاون في قرابة الألفي صفحة، وتعاملت مع معظم التفاصيل الصغيرة في المجالات التي قُصد أن تغطيها.
من وجهة النظر البريطانية، توفّر الاتفاقية استمرار حركة التجارة بين الطرفين، التي تصل إلى مئات مليارات الجنيهات الإسترلينية كل عام، بدون عقبات جوهرية، ولا رسوم جمركية، ولا حصص مفروضة. كما تنظم الاتفاقية سبل التعاون في مجالات الأمن والجريمة وكيفية تبادل المعلومات. ولكن، ولأن بريطانيا اختارت الخروج من الاتحاد، ومن سلطة المحكمة الأوروبية، ومن السوق المشتركة، ومن الاتحاد الجمركي، فمن المبالغة تصوّر الاتفاقية بديلا كاملا عن العضوية. فثمة تكاليف إضافية على المصدّرين البريطانيين تحمّلها، سواء على مستوى تعبئة أوراق تصريحات المرور التجارية، أو على مستوى الزمن المتطلب لحركة البضائع من المصدر، عبر الحدود الجديدة، وصولا إلى هدفها. كما أن الاتفاقية لا تغطي مجال الخدمات الذي يمثل أكثر من 65% من حجم الاقتصاد البريطاني، بما في ذلك الخدمات المالية، وهو ما يعني أن الاتحاد الأوروبي سيعامل البنوك البريطانية، والمؤسسات المالية الأخرى، وشركات المقاولات والعمارة، بل وأساتذة الجامعات والعلماء، باعتبارها خارجية المنشأ، يفرض عليها سلسلة من الإجراءات الإدارية والتكاليف المالية لضمان العمل والنشاط في سوق الاتحاد، وحتى في الحالات المؤقتة.
ما لم يناقَش بصورة ضافية في بريطانيا تحت ضغط وباء “كوفيد-19” المتفاقم، هو كيفية بحث وتنظيم العشرات من المجالات الأخرى -المستمرة بطبعها- التي لم تغطّها اتفاقية التجارة والتعاون، مثل الضمان الاجتماعي والدواء والملكية الفكرية وحركة الطيران. كان أحد مبررات تسويغ الخروج التي استخدمها مناصروه لإقناع الرأي العام البريطاني بالتصويت للبريكست عام 2016؛ أن الاتحاد الأوروبي تحول إلى مؤسسة تحكّم بيروقراطية هائلة، بطيئة ومعطّلة ومكلفة. ولكن الحقيقة أن هذا تمامًا ما ستنتهي إليه العلاقة مع الاتحاد، إذ سيُشكَّل مجلس تعاون بين الطرفين يتكون من 25 لجنة تخصصية، لتنظيم المسائل العالقة التي لم تتعامل معها الاتفاقية.
فوق ذلك كله، ثمة مخاطر ولّدها الخروج من أوروبا، تهدد الوحدة البريطانية. فالقوميون البريطانيون في إيرلندا الشمالية لم ينظروا بارتياح إلى فكرة تكريس حدود بريطانيا مع الاتحاد في البحر الإيرلندي، ورأوا فيها مقدمة نحو وحدة الجزيرة الإيرلندية، ونهاية لعلاقتهم مع بريطانيا الأم. كما أن أسكتلندا التي صوتت في استفتاء 2016 بأغلبية ساحقة للبقاء في الاتحاد، يطالب فيها القوميون باستفتاء جديد حول استقلالها، بعد أن كانوا خسروا استفتاء 2014 بفارق ليس كبيرًا. وهناك استطلاعات رأي تشير إلى أن أنصار الاستقلال باتوا أكثر من 50% من المصوتين الأسكتلنديين.
يصعب -دستوريًّا بالطبع- إجراء استفتاء جديد حول خيار استقلال أسكتلندا دون موافقة الحكومة المركزية في لندن. وقد أعرب رئيس الحكومة بوريس جونسون مرارًا عن رفضه الموافقة على إجراء ذلك الاستفتاء. ولكن السياسة ليست شأنًا مستقرًّا، ولا أحد يمكنه توقع ما يمكن أن يتطور إليه موقف لندن إذا ما تصاعدت ضغوط الرأي العام الأسكتلندي القومي، أو وقع تغيير ما في الحكومة البريطانية.
توجهات أوروبية وبريطانية جديدة
ليس ثمة شك بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيترك فراغا ملموسا في ثقل الاتحاد وموقعه ودوره في الساحة الدولية. فبريطانيا ليست قوة اقتصادية كبيرة وحسب، بل هي كذلك قوة عسكرية واستخباراتية ودبلوماسية بالغة الأهمية. وبالرغم من أن الخروج البريطاني سيعزز من دور ألمانيا وفرنسا القيادي في الاتحاد، فإن خسارة بريطانيا ستترك أثرًا على مجمل صورة الاتحاد ورؤية الأطراف الدولية الأخرى له. كما سيعزز الخروج البريطاني من الدعوات المتصاعدة في بعض دول الاتحاد بضرورة الإصلاح، أو إيقاف عجلة العملية التي تستهدف تعزيز وحدة دوله. ولكن طبقة الاتحاد السياسية تعتقد أن التعقيد الذي أحاط بالاتفاقية مع بريطانيا، والأعباء التي يجب أن تتحملها لندن بعد الخروج، وفّرت درسًا ملموسًا لأي دولة أوروبية أخرى تفكر في الخروج.
بريطانيا -من جهتها- تقول إنها فاوضت بالفعل على اتفاقيات تجارة حرة مع 63 دولة أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة -أكبر قوة اقتصادية في العالم- ينتظر معظمها مجرد التوقيع. وتُقدَّمُ الاتفاقية مع تركيا، التي وُقّعت بالفعل بعد أيام قليلة من الاتفاقية مع أوروبا، باعتبارها مثالا لبريطانيا الجديدة، بريطانيا ذات البعد العالمي بعد الخروج، بريطانيا الحرة في إيجاد الوسائل والسبل لتعزيز تجارتها مع العالم بأسره. ولكن المؤكد أن هناك درجة من المبالغة في هذه الوعود، فالاتفاقية مع تركيا مثلا، لم تفعّل سوى المحافظة على العلاقات بين البلدين في ذات المستوى الذي كانت عليه عندما كانت بريطانيا عضوًا بالاتحاد الأوروبي الذي يرتبط مع تركيا باتفاقية الاتحاد الجمركي. كما أن حجم التبادل البريطاني مع الولايات المتحدة لا يشكل سوى أقل من 0.1% من حجم الناتج القومي البريطاني.
على المدى البعيد، ستنجح بريطانيا بالتأكيد في تأسيس علاقات اقتصادية وتجارية بديلة، أو مكملة لعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، ولكن لا أحد يعرف حتى الآن مدى تأثير الجغرافيا في مجمل هذا التوجه، فبريطانيا في النهاية دولة أوروبية. صحيح أنها جزيرة خارج القارة، ولكنها جزيرة لصيقة بها، تاريخًا وسياسة واقتصادًا وثقافة. وما لم تدرك النخبة البريطانية التي قادت حركة البريكست، أن الماضي الإمبراطوري لا يمكن صناعته من جديد، وتَقبَلْ بعلاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي بعد الخروج، فإن بريطانيا ستكون الطرف الأضعف في علاقاتها المأمولة بالقوى الاقتصادية غير الأوروبية.
ولا يقل أهمية عن ذلك كون لندن خسرت بخروجها التأثيرَ الكبير الذي كانت تتمتع به في تقرير التوجه السياسي للاتحاد الأوروبي، والذي ساهم -إلى حد كبير- في الحفاظ على دور بريطانيا في الساحة الدولية. وحتى الآن، ليس ثمة أدلة صلبة على أن البريكست سيعمل على مزيد من التقارب السياسي بين لندن وواشنطن، وأن هذا التقارب سيصبح رافدًا بديلا للحفاظ على دور بريطانيا وتأثيرها الدولي. فخلال العقود القليلة الماضية، سيما بعد الحرب في العراق، بدت الولايات المتحدة أقل حرصًا على إرضاء حلفائها الغربيين، أو الإنصات لهم.
مركز الجزيرة للدراسات