هتافاتهم كانت لحرية الوطن، للتخلص من الطاغية وأدوات القتل والقمع والتشريد التى صنع بها خرائط الدماء والمظالم والانتهاكات، لحقهم فى اختيار الحكام وإخضاعهم للمساءلة والمحاسبة، لصون كرامتهم الإنسانية والانتصار لتطلعاتهم المشروعة للعدل والأمن والتقدم. أما اليوم فهتافاتهم تردد أسماء البلدان الأوروبية التى يرغبون فى اللجوء إليها – السويد وألمانيا، أو أسماء البلدان الأخرى التى لا يريدون البقاء فيها كعالقين فروا من جحيم الاستبداد والحرب فى سوريا ومن أهوال الهجرة غير الشرعية ويتخوفون من الممارسات العنصرية لبعض الحكومات اليمينية – إن فى المجر أو الدنمارك أو فى سلوفاكيا، أو أسماء الساسة الغربيين الذين ينتظرون منهم وحدهم الإسراع إلى الإنقاذ ومد يد العون.
أكتب عن آلاف السوريات والسوريين، عن مئات الأسر المهجرة والنازحة والهاربة الطارقة للأبواب الأوروبية، عن اللاجئين الذين يتظاهرون فى المجر طلبا للانتقال إلى ألمانيا ونظرائهم الذين يهتفون فى مراكز اللجوء الدنماركية لكى يتركوا للارتحال إلى السويد، عن التقارير الكثيرة للإعلام الغربى المتناولة للأوضاع الكارثية لملايين السوريين الذين بلغوا الأراضى التركية أو اللبنانية أو الأردنية أو المصرية ويضغطون اليوم على منظمات الإغاثة الأممية ومنظمات المجتمع المدنى ليمكنوهم من الالتحاق بالناجين فى الملاذات الأوروبية.
بالأمس شاهدت بعض المقاطع المصورة «لمظاهرة سورية» فى الدنمارك مطلبها الوحيد هو «السويد»، الارتحال شمالا إلى حيث حزم الضمانات الاجتماعية الأفضل وفرص الاندماج الأكبر فى «المجتمع الجديد» والشروط الأسهل لاستقدام الأهل المنتظرين إن فى بقايا الوطن الذى دمره الاستبداد وجره إلى حرب الكل ضد الكل أو فى جواره الإقليمى المباشر أو فى أراض أوروبية بعيدة عن بلاد الرفاهة والرخاء فى الغرب والشمال أو فى عرض البحر المتوسط الذى تقدم يوميا لآلهة الموت السابحة فى مياهه القرابين من أرواح وأجساد الأطفال والنساء والعجائز والرجال أملا فى نجاة الآخرين.
***
هى ذات الوجوه التى شاهدت قبل أربع سنوات مقاطع مصورة لتظاهراتها فى القرى والمدن السورية التى كان مطلبها الوحيد هو «الحرية»، لبطولاتها فى مواجهة آلة قتل وقمع ديكتاتور الأسد التى ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وحصدت أرواح المدنيين منذ اليوم الأول للثورة السورية، لتمسكها «بسلمية البدايات» لعل الضمير الإنسانى فى مراكز صنع القرار العالمى فى الغرب الأمريكى والأوروبى وفى الشرق الصينى والروسى وفى العواصم الإقليمية الداعمة للديكتاتور يستيقظ ويفرض نهاية للعنف وحلا سياسيا يضمن التحول الديمقراطى، للتفلت التدريجى لبعضها من السلمية وتورطها فى تكوين جماعات للعنف المضاد وغرقها فى مستنقع الطائفية وجنون مقولات الكراهية وإلغاء الآخر واستساغتها التوظيف من قبل قوى إقليمية ودولية مولت وسلحت نظير إنفاذ أجنداتها هى وليس أجندة الشعب السورى الباحث عن الحرية.
هى ذات الوجوه التى شاهدت خلال السنوات الأربع الماضية مقاطع مصورة لنحيبها فى جنازات ضحايا قصف مدفعية وطائرات الديكتاتور للأحياء السكنية، لطقوسها الدينية وهى تشيع ضحايا المجازر الجماعية عبر البراميل المتفجرة التى ليست إلا أفران غاز القرن الحادى والعشرين التى «ابتكرها» نظام إبادة لا تقل طاقته الإجرامية أبدا عن النازى ولا تتمايز دوافعه لاستخدام البراميل المتفجرة عن دوافع النازى من وراء أفران الغاز ــ القتل الجماعى محدود الكلفة المادية، هى ذات الوجوه التى شاهدتها مخضبة بالدماء ومشوهة ملقاة على جنبات طرقات وشوارع القرى والمدن السورية بعد أن تسابق الديكتاتور وعصابات الإرهاب على انتهاك حقها المقدس فى الحياة.
هى ذات الوجوه التى شاهدتها فى الآونة الأخيرة تفر من جنون داعش تاركة من ورائها أماكن لامستها أيادى الإنسانية والتحضر والتمدن منذ آلاف السنين، شاهدتها تهجر من مواطنها التى حفظت تراثها الدينى والفكرى والثقافى وإبداعاتها الفنية وسجلت قدرة العرب فى لحظات تاريخية سابقة على قبول الآخر والاعتراف بالتعددية وممارسة التسامح، شاهدتها تقف مشدوهة أمام جثث ضحايا جهل وتطرف وقبح عصابات الإرهاب وأمام الدمار والخراب اللذين ينزلان بالمعابد الكنائس والأديرة كعقاب السفاحين ويهددان بأن يمحى وجه صفحة حضارية بديعة من تاريخ شعوبنا المنكوبة، شاهدتها تطرق جماعيا أبواب اللجوء بعد أن أعدمت داعش رجالا واغتصبت نساء واختطفت أطفالا وشيوخا وشاهدتها ومطالبها بالرحيل إلى ملاذات آمنة تندمج مع مطالب عموم السوريات والسوريين بعد أن سأموا تقتيلهم إن بفعل براميل الديكتاتور المتفجرة أو بفعل نيران داعش لتصنع موجة «خروج» جارفة تستدعى إلى المخيلة روايات «الخروج» الكبرى الواردة فى الكتب الدينية.
***
ينزل الديكتاتور ومعه آلة قتله وأعوانه والقوى الإقليمية والدولية الداعمة له عقاب الإبادة الجماعية والنزوح الجماعى بالشعب السورى لأنه امتلك شجاعة طلب الحرية والأمل فى تغيير يباعد بينه وبين شرور الاستبداد والطائفية والفساد والظلم، تنزل عصابات الإرهاب والقوى الإقليمية والدولية التى تورطت أو مازالت تتورط فى تمويلها وتسليحها عقاب القتل والتهجير بالشعب السورى لأنه بحث عن منظومة جديدة لإدارة العلاقة بين الدولة والمجتمع والمواطن تتجاوز استبداد وطائفية الأسد دون أن تستسلم لاستبداد مضاد أو طائفية معكوسة، يترك الضمير الإنسانى الشعب السورى وحيدا فى مواجهة الإبادة والنزوح والقتل والتهجير تماما كما ترك من قبل الصوماليون والعراقيون ويترك حاليا اليمنيون والليبيون وغيرهم فى بلاد أخرى يسكنها العرب لمصائر ظالمة ومظلمة ولا تأتى الاستفاقة الجزئية إلا بعد قرار عفوى فى جماعيته من قبل السوريات والسوريين أن آن أوان الرحيل وفرض إرادة المتشبثين بالحياة بالإعلان عن وهن الجسد وتداعى الروح وعن استعداد للمخاطرة بالمتبقى بعد استباحة دماء الناس وإعمال الإبادة والقتل فيهم وبعد دمار الوطن وضياع معناه أملا فى بداية جديدة وموطئ قدم فى وطن آخر.
أى عالم هذا الذى يقبل بهذه المأساة حصيلة لطلب الحرية؟ أى عالم هذا الذى يعيد فى القرن الحادى والعشرين إنتاج الحقائق المؤلمة للإبادة الجماعية والنزوح والتهجر والارتحال التى ارتبطت بالقرون السابقة وخلناها ماضيا لن يعود؟ أى عالم هذا الذى يعبث به مستبدون ومتطرفون بمصائر شعوبهم ويسومونها سوء العذاب، أى عالم هذا الذى يترك صراع المستبدين والمتطرفين وتكالبهم على السلطة يدمر الدول ويقضى على سلم المجتمعات وينتهك حقوق وحريات المواطن؟ أى عالم هذا الذى يرتفع فيه أصوات مسئولين وساسة غربيين يستقبلون الفارين السوريين وغيرهم من الناجين من ثلاثية الاستبداد والإرهاب والفقر فى بلاد العرب أن لا مكان لكم، بل إن من سبقوكم لنا كلاجئين مآلهم التهجير العكسى من حيث قدموا (رؤساء وزراء بعض الدول الأوروبية ورجل الأعمال الأمريكى دونالد ترامب الراغب فى حجز بطاقة ترشح الحزب الجمهورى للانتخابات الرئاسية القادمة فى الولايات المتحدة الأمريكية)؟ أى عالم هذا الذى ينتظر من مستبدين ومتورطين فى انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان والحريات أن يأتوا بالحلول العادلة للمأساة السورية؟ أى عالم هذا الذى يزعق به بعض داعمى الاستبداد والسلطوية وممولى المظالم والانتهاكات أن لديهم المفاتيح السحرية للسيطرة على موجات اللجوء واللاجئين بإنفاق هنا وشراء هناك؟ أى عالم هذا الذى لا يتوقف أمام عمق دلالات تغير هتافات السوريات والسوريين، من طلب الحرية للوطن إلى طلب النجاة الشخصى باللجوء إلى السويد؟
***
هو عالم مازال الظلم هو قوته الأكبر والأفضل تنظيما والأكثر فاعلية، عالم لا قبل لنا بإيقاف مظالمه سوى بقوة البدايات الجديدة والأفكار الجديدة وبإعادة اكتشاف جمال الإنسانية الذى تبدى جليا على هوامش المأساة السورية – أوروبيون يسبقون حكوماتهم للاحتفاء بالفارين من إبادة الأسد ونيران داعش وتقديم المساعدات، أسر لبنانية فقيرة تتقاسم قوتها المحدود مع الأسر السورية، مبادرات عفوية وصغيرة لدمج اللاجئين فى أوطانهم الجديدة، مبدعون وفنانون ومفكرون يتصدون لجهل وشعبوية بعض المسئولين والسياسيين باستدعاء تاريخ الغربيين المرير الذى صنع ملايين القتلى والنازحين واللاجئين من ضحايا ويذكرون الناس بحتمية التضامن الأخلاقى والإنسانى مع ضحايا اليوم.
عمرو حمزاوي
صحيفة الشروق المصرية