يحرص الرؤساء الديمقراطيون عند دخولهم إلى البيت الأبيض على محاولة تنفيذ سياسات ليبرالية، وزيادة دعم نشر ثقافة الديمقراطية في العالم، لكن هذا المسار التقليدي قد يشهد انقلابا على العرف المتوارث يدفع إليه تغير أولويات الإدارة الأميركية الجديدة، وبالتالي فإن ازدواجية السياسات الأميركية وضعف تأثيرها على الأنظمة وخاصة في المنطقة العربية لدعم الحريات قد يزيدان من منسوب المخاوف من أن تلك الأجندة ربما تأتي بنتائج عكسية.
لندن – شهدت السياسة الخارجية لجميع الإدارات الأميركية تشديدا على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وضرورة ترويجها، كما قامت بإدخال بعض العناصر الجديدة على سياستها في المنطقة العربية، عندما خصصت قسما من المساعدات التي تقدمها إلى بعض دول المنطقة لمنظمات المجتمع المدني، لكن هذا التغير لم يرق إلى مستوى سياسة واضحة المعالم.
بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، قام المحافظون الجدد في الولايات المتحدة بصياغة رؤية للسياسة الخارجية، فضّلت استخدام القوة لفرض مؤسسات ديمقراطية على الأشخاص المضطهدين بحجة عدم قدرة الناس الخاضعين للحكم الدكتاتوري على تحديد مصيرهم، مما يعطي القوى الأجنبية التزاما أخلاقيّا بتحسين مصيرهم عوضا عنهم.
وتستند الفكرة الإمبريالية الديمقراطية في الشرق الأوسط، الذي كان محور معظم النشاط العسكري الأميركي على مدى العقدين الماضيين، على الاقتناع بأن الناس في تلك المنطقة الشاسعة متجانسون ثقافيا وأن طبقاتهم الوسطى قوية سياسيا، وأن مواطنيهم يدركون واجباتهم تجاه بعضهم البعض، وأن الأساس الاجتماعي والمؤسسي للديمقراطية موجود.
تصدع النموذج الأميركي
على إثر الأحداث التي شهدتها الولايات المتحدة في الفترة الماضية، دخل محللو مراكز الأبحاث في مناقشات حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستنشر الفوضى في العالم العربي بدل بسط مبادئ الديمقراطية التي تتبناها.
وهذا السجال يأتي بينما تصب الترجيحات في أن إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن ستركز على ترميم الديمقراطية الداخلية وردع مخاطر انقسامات حقيقية وتمرد على القانون والمؤسسات الدستورية في الداخل الأميركي.
وحسب رصد لتقييم المخاطر أعده مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث، فإن الأحداث التي عرفتها الولايات المتحدة منذ الانتخابات الرئاسية في نوفمبر الماضي من شأنها أن تقلص تدريجيا من رصيدها التاريخي في الممارسة الديمقراطية وتشوّه سمعتها كمنارة لنشر الديمقراطية في العالم ما يجعلها مثالا سيئا يحتذى به.
ويعتقد خبراء المركز في تقرير حديث أن بتلك الوضعية قد تفقد الولايات المتحدة توصياتها لدعم الديمقراطية في العالم قيمتها في حال زيادة انفلات الوضع الأمني وزيادة التصادم بين قوات النظام والشعب المنقسم مع مخاوف لانجرار البلاد للقمع الداخلي والتي لطالما كانت بين أكثر المنتقدين له عالميا.
ولم تشهد الولايات المتحدة منذ إرسائها لدستورها محاولات تمرد شعبي على المؤسسات الدستورية وعلى القانون كما شهدته الأشهر الماضية مدفوعة بأحداث تصاعد الكراهية والتمييز العنصري المتبادل، والتي دفعت إليها أولا مجموعات شعبية من السود احتجوا صيف العام الماضي على مقتل مواطن أسود على يد شرطة من البيض وانتهت إلى أعمال شغب.
ولاحقا أشعلت خطابات ترامب بعد خسارته مجموعات اليمين المتعصبة لتفوق العرق الأبيض، الذين اجتاحوا مبنى الكونغرس معقل الديمقراطية الأميركية في رسالة غضب دفعت إليها هواجس اختطاف الولايات المتحدة من الأعراق المختلفة مقابل توقع تحول شريحة البيض الأميركيين من الأغلبية إلى أقلية بعد نحو عقدين فقط.
ورفعت الاحتجاجات التي قادها السود أو البيض في أكثر من مناسبة في الأشهر الأخيرة شعارات الكراهية والتمرد على الشرطة والقانون والمؤسسات، ومثلت مؤشرات تهديد حقيقية للوحدة بين مكونات المجتمع والولايات الأميركية، ما يدفع إلى إعادة النظر في إجراءات قد تقيد الحريات لردع انتشار سلوك الفوضى والشغب لمعارضة سياسات الحكومة.
ولعل آخر بوادرها ما بادرت به شركات منصات التواصل الاجتماعي من إغلاق حسابات ترامب على مواقع التواصل الاجتماعي وحسابات لشخصيات أخرى بدعوى التحريض على العنف والكراهية، وهو ما ينظر إليه البعض بعين الريبة والخوف من زيادة فرض قيود على حريات التعبير في العالم الافتراضي.
ومثل هذا الإجراء النادر قد يضر أيضا بسجل الولايات المتحدة في مجال الحريات التي لا تؤمن الأدبيات الأميركية أصلا بوجود سقف لها، وما قامت به منصات التواصل الأميركية اعتبرته بعض المنظمات الحقوقية تدخلا وتقييدا لحريات التعبير مهما كان مضمونها، ما يجعل البلاد مهما كانت المبررات تفقد المكانة الأولى في دعم الحقوق والحريات في العالم.
يعتقد محللو مركز الخليج للدراسات والبحوث أن ثمة احتمال أن تقدم الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة أسوأ نموذج للديمقراطية غير المسؤولة والفوضوية التي تدعمها شخصيات تصل إلى درجة رئيس الولايات المتحدة، في إشارة إلى ترامب، المهدد بالمحاكمة للتحريض على الفوضى والكراهية، وبالتالي قد تُصدر الولايات المتحدة نموذج الفوضى للعالم رغم وعود الرئيس جو بايدن بمحاولة علاج ما أفسده ترامب.
وثمة فرضية أخرى تطفو على السطح والمتعلقة بتقلص تدخلات واشنطن المباشرة في شؤون الدول خاصة في ما يتعلق بمواضيع الحقوق والحريات إلى حين علاج الصدع الذي ضرب صرح الديمقراطية الأميركية الداخلية حيث تفقد رمزيتها كمنصة للعالم الحر.
وتزيد المخاوف من أن بداية عهد بايدن التي تتصادف مع مرحلة غليان شديد في عدة دول حول العالم بسبب انتقادات شعبية لسياسات الحكومات في إدارة أزمة كورونا واتهامات بتحميل الشعوب العبء الأكبر للتكلفة الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأزمة دون آفاق تعويض عن الأضرار التي لحقت بالطبقات الضعيفة، ما قد يفجر غضبا قد يتحول ؟إلى احتجاجات وأعمال شغب تجتاح دولا عبر المعمورة.
وتبدو المنطقة المرشحة للاحتجاجات والفوضى هي منطقة العالم العربي، ولاسيما بلدان ما يسمى بـ”الربيع العربي” وأيضا الدول الفقيرة ومحدودة الدخل، والتي يعاني مواطنوها من تقلص فرص التغيير الإيجابي وسط قفزة معدلات الفقر والبطالة والانقطاع المبكر عن التعليم ومؤشرات التضخم.
الأحداث التي عرفتها الولايات المتحدة منذ الانتخابات الرئاسية في نوفمبر الماضي من شأنها أن تقلص من رصيدها التاريخي في الممارسة الديمقراطية وتشوّه سمعتها كمنارة لنشر الديمقراطية في العالم
وتواجه معظم الحكومات العربية مخاطر حقيقية لاندلاع فوضى قد تهدم الاستقرار المهدد بأزمة تمويل ضخمة غير مسبوقة لمتطلبات المواطنين، إذ أن حكومات كثيرة ما تزال تكافح الجائحة وتضطر لاستمرار الإغلاق الشامل لأكثر من عام، الأمر الذي يعمق انهيار مؤشرات التنمية وشبح الإفلاس، حيث قفزت مديونات بعض الدول إلى حدود 90 في المئة.
ومن المرجح أن يسير بايدن بنفس مسار الرئيس السابق باراك أوباما، خاصة على مستوى التدخل الانتقائي في دعم سياسات الحكومات من خلال التأثير الذي تملكه واشنطن على المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهو ما يزيد من نظرة مقلقة حول سياسات الولايات المتحدة في التعامل مع الدول العربية على أساس شروط تفاوض جديدة.
وقد تكون تدخلات واشنطن لدعم الاستقرار في عدد من الدول غير ناجعة بالنظر إلى سياسة دعم جل الأطراف خاصة التي تملك شعبية في دولها، حيث قد لا تعمد سياسات بايدن إذا استلهم منهج أوباما إلى انتهاج الإقصاء المباشر لأطراف سياسية صالح أطراف أخرى، حيث تخير دائما الإدارة الديمقراطية طريقة التفاوض مع جل الأطراف والتي تؤدي في أغلب الأحيان لإطالة الأزمة دون حسمها.
ولا تعول دول عربية كبيرة على الحسم الأميركي في المرحلة المقبلة خاصة دول الخليج بالنظر إلى عودة سياسة التفاوض الشامل وفرض سياسة ازدواجية التعامل مع الأصدقاء والأعداء وفق تغير المصالح.
وفي ظل توقع احتجاجات تدفع إليها ظروف اقتصادية واجتماعية خاصة في دول العالم التي ترزح نسبة كبيرة منها تحت ضغوط التعافي من تداعيات ثقيلة لجائحة كورونا، تزيد مخاوف اندلاع الفوضى وتسلل الإرهاب إليها في ظل عجز متوقع لبعض الحكومات عن الإيفاء بمطالب جزء كبير من الشرائح الشعبية ويؤدي إلى تصادم مع الأنظمة، وهو ما تتوقعه تقارير المخابرات الأميركية.
لكن الخوف الأكبر قد يتمثل في احتمال معالجة أميركية للأزمات العربية بنفس طريقة تدخل إدارة أوباما في أضخم أزمات العالم العربي في التاريخ الحديث والمعروفة بـ”الربيع العربي” في 2011.
العرب