لعل الوصف الأدق للجمهورية التركية هو ما استخدمه الباحث اللبناني المختص في التاريخ التركي، محمد نور الدين، في مقدّمة كتابه الذي صدر حديثاً عن “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر” بعنوان “مئة عام من تاريخ تركيا الحديث.. سيرة سياسية واجتماعية 1920 – 2020″، بأنها الدولة الأكثر تأثراً في حاضرها بماضيها. فكثير من المشكلات التي ظنّ “الغازي” مصطفى كمال، مؤسس الدولة التركية أنه استطاع حلّها آنذاك، تطفو على سطح المجتمع التركي اليوم من جديد.
يدرك الباحث منذ البداية أن مسألة رسم الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية لكيان الجمهورية التركية الوليدة، لم تكن أقل صعوبة من رسم الحدود الجغرافية للجمهورية على أنقاض دولة عليّة سادت قارتين منذ القرن الرابع عشر، ثم ثلاث قارات منذ عام 1517. ويتطرق الكتاب إلى أبرز الصراعات التي عاشتها تركيا خلال مئة عام، على المستويين الداخلي والخارجي، منذ أن تغيرت من شكل “الأمة” وأصبحت “دولة قومية”.
ويرى نور الدين أن أبرز هذه الصراعات على المستوى الداخلي، تتمثل بالصراع العلماني – الإسلامي الذي رافق تاريخ الجمهورية منذ نشأتها، ولا يزال مفتوحاً حتى الآن. كذلك يظهر الصراع الداخلي أيضاً في مسألة الديمقراطية والاشتباك المفتوح بين المدنيين والعسكريين في المرحلة اللاحقة لحكم الحزب الواحد، وهو “حزب الشعب الجمهوري”. أي بالانقلاب على الحزب الديمقراطي برئاسة عدنان مندريس عام 1960، وما تلاه من صراعات حول الديمقراطية وانقلابات عسكرية ومحاولات للانقلاب. ويتناول الصراع الداخلي أيضاً ما يُعرف بـ”المسألة القومية”، التي كانت أحد أبرز عوامل عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في تركيا، وقد وضعت أسس هذا الصراع في معاهدة لوزان التي لم تعترف بوجود هويات على أسس عرقية.
كثير من المشكلات التي ظنّ أتاتورك أنه حلّها ما زالت قائمة
أما الصراعات على المستوى الخارجي، فيتناول الباحث وضع تركيا كجزء بنيوي من المعسكر الغربي وسياساته في المنطقة العربية، وكحليف وثيق لـ”إسرائيل”، ورأس حربة لحلف شمال الأطلسي في الصراع ضد الشيوعية. ويتعرّض أيضاً لعلاقات تركيا بالعالم العربي، التي كانت عرضة للمد والجزر على مدار عقود، وبحسب نور الدين، فإن هذه العلاقة قد أخذت منحىً جديداً تماماً، ليس فقط بوصول “حزب العدالة والتنمية” إلى الحكم، وانفتاحه على العالم العربي بعد قطيعة استمرت لعقود منذ نشأة الجمهورية التركية، ولكن باندلاع ثورات الربيع العربي، وما تلاها من محاولات لإعادة الروابط التاريخية والثقافية بين تركيا والدول التي كانت تحت سلطة الدولة العثمانية، في ما يعرف بـ”العثمانية الجديدة”، والتي يرى نور الدين أن سياسياً بارزاً مثل أحمد داود أوغلو لم ينكر هذه السياسة في حوار أجراه الباحث نفسه معه، وفي مناسبات أخرى.
يدخل الباحث إلى علاقة الأتراك بمصطفى كمال أتاتورك من خلال تناوله لحرب الاستقلال، ودور انتصار الأتراك على اليونانيين في معركة صكاريا بقيادة مصطفى كمال الذي منحه البرلمان بعدها لقب “غازي”، ويذكر كيف أسهمت هذه الانتصارات في تغيير النظرة إلى حكومة أنقرة داخليّاً وخارجيّاً، حيث وُقِّعت على إثرها العديد من الاتفاقيات لترسيم الحدود الجديدة، وخصوصاً مع روسيا وفرنسا.
ومن خلال تفاصيل صغيرة، يسلط الباحث الضوء عليها، استطاع أن يصوّر لنا المناخ الجديد لتركيا ما بعد الجمهورية، بعد أن استقرت الأمور لأتاتورك وقضى على ثورة الأكراد بقيادة الشيخ سعيد بيران، وأخذ خطوات جذرية نحو “تحديث” المجتمع على الطراز الغربي. ومن بين هذه التفاصيل، مثلاً: تنظيم أوّل مسابقة لملكة جمال تركيا بدعم كامل من الحكومة في ظل أزمة اقتصادية عالمية بعد انهيار بورصة نيويورك عام 1929، وقد تأثرت تركيا كثيراً بهذه الأزمة.
ومن بين التفاصيل التي تسلّط الضوء على أوضاع الحريات في عهد أتاتورك وخليفته إينونو: اعتقال الشاعر ناظم حكمت بعد العثور على دواوينه الشعرية في خزائن العديد من طلاب المدرسة الحربية في أنقرة، وحكم المحكمة عليه بالسجن 15 عاماً. وقضية المدرسة البحرية أيضاً، بعد العثور على كتب ناظم في خزائن طلابها، فاعتُقِل 62 شخصاً، من بينهم الروائي كمال طاهر والمُنظّر الماركسي حكمت كيفيلجيملي والروائي كريم كورجان، واتهام ناظم بالتعاون مع السوفييت ضد تركيا، والحكم عليه بعشرين سنة أخرى، وهو داخل السجن.
وبينما يرى الباحث أن أتاتورك قد وجّه ضربة قوية إلى المنظومة الدينية القديمة، إلا أنه يؤيد أنها كانت إصلاحات ضرورية لإحداث هزّة في تلك المنظومة التي كان انهيارها حتمية تاريخية. إلا أن الخطأ الأكبر من وجهة نظر نور الدين، أن أتاتورك قد استعجل في إحلال المنظومة الجديدة دون أن تستوعب الشرائح الاجتماعية تلك التغييرات. ولهذا السبب، يرى الباحث أن التذمُّر من التشدد الأتاتوركي قد انعكس على أول انتخابات ديمقراطية عام 1950، وهو ما أدى إلى إخفاق حزبه بقيادة إينونو في الاحتفاظ بالسلطة، حيث فاز حزب مندريس بأغلبية ساحقة.
نجد في الكتاب أيضاً لمحات عن الحياة الثقافية في أربعينيات القرن الماضي، تتمثل بتيار “غريب” الشعري الذي أسسه الشاعر أورهان ولي مع الشاعرين رفعت أوكتاي ومليح جودت. وهو التيار الذي نادى بالتحرر الكامل من الوزن الشعري، بعد أن فتح ناظم حكمت الباب أمام التجديد في الشكل والمضمون منذ ديوانه الأول عام 1929. وقد استخدم شعراء التيار لغة الحياة اليومية في أشعارهم، ويتطرق الكتاب كذلك إلى أبرز السجالات الأدبية في تلك المرحلة بين المجددين والمحافظين.
يتناول الكتاب أيضاً علاقة تركيا بـ”إسرائيل” منذ اعترافها بدولة الكيان الصهيوني عام 1949، ويرى نور الدين أن حكومة إينونو في تركيا قد سمحت بهجرة اليهود إلى “إسرائيل” للتخلّص من الأقليات غير المسلمة وإقامة دولة تركية صافية. ويؤكد أن العلاقات الاقتصادية والثقافية بين تركيا و”إسرائيل” قد شهدت تطوّراً ملحوظاً، وفي هذا السياق، أنشأ اليهود من الأتراك المهاجرين غابة باسم أتاتورك في جبل الكرمل عام 1953. كذلك كانت أول مباراة كرة قدم يلعبها فريق “هبوعيل تل أبيب” خارج “إسرائيل” في تركيا أمام فريق “فنار بهتشه”.
نقاشات جديدة شهدها المجتمع التركي بوصول الحزب الديمقراطي إلى الحكم برئاسة عدنان مندريس عام 1950، يتعرض لها الباحث، كمسألة إعادة رفع الأذان باللغة العربية وبعض القرارات الأخرى التي اتخذها مندريس في سبيل الانفتاح على الإسلاميين الذين نبذهم الحزب الجمهوري لعقود. إلا أن المثير للانتباه، أن نور الدين يرى أن هذا الانفتاح لم يكن مقتصراً على الحزب الديمقراطي فقط، لكنه أصبح سمة لكل الأحزاب في تلك الفترة، بما فيها حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي، الذي يرى الباحث أنه عمد إلى توظيف الدين في خدمة السياسة أيضاً، بعد أن أدركت جميع الأحزاب الميول الدينية للشعب التركي.
وعلى عكس ما يُشاع في الدراسات العربية حول مرحلة مندريس (1950-1960)، ووصفها بـ”المرحلة الديمقراطية”، يرى نور الدين أن مندريس قد انتهج سياسات قمعية ضد المعارضة، سواء داخل حزبه أو ضد الصحافة والحريات عامة. وفي هذا السياق يذكر نور الدين عدة أمثلة، كالاعتداءات المادية والمالية على بعض نواب حزب الشعب الجمهوري، واعتقال عدد كبير من الصحافيين في عهده، وإغلاق العديد من الصحف بقرارات قضائية مثل صحيفة “الشرق الكبير” و”خلق” و”أولوس”، وملاحقة بعض الفنانين، كمحاكمة المغنّي التركي الشهير زكي موران بتهمة تحقير شرطة السير، والحكم على الشاعر والمفكر الإسلامي نجيب فاضل بالسجن خمس سنوات بتهمة تحقير أتاتورك.
يستعرض الكتاب أيضاً أبرز القضايا التي شهدها المجتمع التركي خلال عقد الستينيات بعد الانقلاب العسكري على مندريس وإعدامه عام 1961، كعودة المسألة الكردية والعلوية إلى الواجهة مرة أخرى. وبحسب الباحث، فإن الملاحقات التي شهدتها هذه السنوات لعدد كبير من المثقفين الأكراد، كانوا إما يساريين أو من ذوي النزعة الاستقلالية. وقد طالب العلويون أيضاً في تلك المرحلة بالمساواة بين المعتقدات وفق مبدأ العلمانية، وقد بدأت الصدامات بين السُّنة والعلويين في كهرمان مرعش التركية منذ عام 1966. وتعد قضية الأكراد والعلويين من أبرز الملفات الشائكة التي لم تُحل في تركيا حتى الآن.
يعتبر نور الدين أن عام 1970 هو بداية مرحلة جديدة في السياسة التركية، تُعرف بمرحلة ظهور الإسلام السياسي، بظهور نجم الدين أربكان مؤسس حزب “النظام الوطني”، في الوقت الذي كانت تتصاعد فيه أنشطة الحركات اليسارية التركية التي بدأت بشكل كبير مع حراك الطلاب عام 1968. ولذلك يصف سنوات ما بعد انقلاب 1971 العسكري بسنوات “الفوضى والعنف”، حيث شهدت تركيا خلال هذا العقد تصاعداً للعنف الأهلي بين اليمين واليسار، واستمرت حتى الانقلاب العسكري عام 1980.
ومن بين النقاشات التي يتعرض لها الكتاب، نقاشات الحِجاب التي بدأت تترد في المجتمع التركي منذ منتصف الثمانينيات، بعد أن طلب كنعان إيفرن رئيس الجمهورية من المحكمة الدستورية إلغاء السماح بارتداء الطالبات الجامعيات الحجاب باعتباره مخالفاً للدستور. واستمرت هذه النقاشات في تركيا خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات ضمن صراعات الهوية. ويرى الباحث أن هذه الفترة شهدت تضييقاً مرة أخرى على التيار الإسلامي، حتى تغيرت الأوضاع، بطبيعة الحال، مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002.
أهم ما يميز هذا الكتاب، تركيزه على السياق الاجتماعي في أثناء تناوله للأحداث السياسية، وهو ما يسمح بتكوين صورة كاملة عن الحدث. وقد نجح الباحث في ذلك باستثناء الجزء الأخير من الكتاب، الذي مرّ فيه سريعاً على أبرز الأحداث السياسية خلال فترة تولي “العدالة والتنمية” الحكم، دون الرجوع إلى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى اكتساح الحزب في الانتخابات أو السياق الذي ظهر فيه، بعد انشقاقات كثيرة عن أحزاب سابقة، وهو ما أظهر شخصية رجب طيب أردوغان مقطوعة من سياقها التاريخي، دون التركيز على الدور الذي لعبه عندما كان رئيساً لبلدية إسطنبول الكبرى، وصعوده التدريجي حتى وصوله إلى الحكم ليصبح الرئيس الأبرز بعد أتاتورك.
أحمد زكريا
العربي الجديد