أجواء الجمهورية الإسلامية الحالية وهي تحتفل بمرور 42 عاما على ثورتها التي أطاحت بنظام الشاه، تختلف كثيرا عما عاشته من ظروف في مثل هذه الأيام من العام الماضي. يومها كان رموزها وشعبها يرزحون تحت ألم الضربة الأمريكية التي قتلت واحدا من أهم عناصر الثورة كان رمزا للنفوذ الإيراني الاقليمي، في أجواء من القلق الذي يتصاعد من احتمال نشوب حرب مع امريكا بقيادة دونالد ترامب، وبدايات قلق يتصاعد بعد اكتشاف حالات من الإصابة بوباء كورونا.
بينما تعيش طهران هذا العام أجواء تتسم بقدر أكبر من الانفتاح والأمن وهي تستعد لانتخابات رئاسية غير معروفة النتائج سوى أن الرئيس الحالي، الشيخ حسن روحاني، لن يكون من بين المرشحين. فالدستور الإيراني لا يسمح بتولي شخص أكثر من فترتين رئاسيتين. كما يسود طهران شيء من الأمل بعد خروج ترامب من المسرح السياسي الذي خلق لها متاعب لا تحصى، سياسية وأمنية واقتصادية، وتنتظر ما يتمخض عن الوعود والتوقعات المرتبطة برئاسة جو بايدن، مع إصرار إيران على عدم مد الجسور مع الولايات المتحدة الأمريكية. كما تأمل أن يمنع التغيير السياسي في واشنطن تمادي الكيان الإسرائيلي في استعراض عضلاته وتصعيد الاعتداءات على جيرانه، أو التفكير باستهداف المشروع النووي الإيراني.
ولعل الجانب الذي لا يقل أهمية في الدائرة الإقليمية احتمال انتهاء الحرب التي بدأها التحالف السعودي – الإماراتي على اليمن، بعد أن أعلن البيت الأبيض عزمه على وقف تزويد التحالف بالسلاح، وتوجيه الرئيس بايدن فريقه للعمل على وقفها. ولا يستبعد أن تتوقف قبل مرور الذكرى السادسة على اندلاعها في بعد أن مُني التحالف بهزيمة حقيقية يتحاشى إعلامه التطرق لها. وسواء حدث ذلك أم لم يحدث فقد كانت الحرب سببا لتداعي الدور السعودي الإقليمي وتراجع سمعته الدولي. فقد أدت الحرب لضربة قوية لمصداقية السعودية وسمعتها وهيبتها، إذ لم تحقق اختراقات عسكرية ذات أهمية برغم تفوقها العسكري الهائل، بل أصبحت منشآتها النفطية والاقتصادية والعسكرية هدفا للصواريخ اليمنية وأحدثت توازنا في ميزان الرعب، أفقد الرياض تفوقها النوعي.
هذه الأجواء دفعت الإيرانيين للتفاؤل بالخروج من أربع سنوات كانت الأسوأ منذ الحرب التي استمرت ثمانية أعوام بعد قيام الثورة..
إن الجيل الأول الذي صنع الثورة وساهم في تشييد صرحها بدأ يتناقص بشكل طبيعي. ولكن بقاء المرشد الأعلى، آية الله السيد علي خامنئي، في موقع الولي الفقيه منذ رحيل الإمام الخميني في العام 1989، وفّر لها حالة استمرار عمّقت جذورها وساهمت في تنشئة عناصر ثورية تمسك بتلابيب الدولة وتمنع انحرافها الإيديولوجي او السياسي. ومن المؤكد أن البعد الإيديولوجي هو الأهم لتحديد مسار الدولة وصوغ تحالفاتها الإقليمية والدولية.
يسود طهران شيء من الأمل بعد خروج ترامب من المسرح السياسي الذي خلق لها متاعب لا تحصى، سياسية وأمنية واقتصادية، وتنتظر ما يتمخض عن الوعود والتوقعات المرتبطة برئاسة جو بايدن
وبرغم تراجع الحالة الإسلامية في العالم، إلا أن العقيدة السياسية للجمهورية الإسلامية المؤسسة على الإسلام ما تزال ثابتة نظرا لارتباطها بعلماء الدين والمؤسسات العلمية التي يشرفون عليها. هذا في الوقت الذي يتراجع فيه رواد «المشروع الإسلامي» العربي عن التقدم أو تحقيق اختراقات سياسية حقيقية. وثمة شعور بالإحباط لدى قطاعات واسعة نتيجة توسع دائرة التطبيع مع محتلي فلسطين. ويزيد من هذا الإحباط انهيار الحاجز النفسي لدى الكثيرين إزاء مشروع التطبيع الذي فرضه ترامب والتقطته حكومتا الإمارات والبحرين اللتان هرولتا نحو العدو بسرعة فائقة. ولكن الأشد وقعا أن يسقط في فخ التطبيع حكومات تهيمن عليها اتجاهات إسلامية، كما حدث في المغرب والسودان.
بعد مرور أكثر من أربعة عقود ما تزال إيران ملتزمة بسياستها تجاه الاحتلال الإسرائيلي، التي ترفض الاعتراف بالكيان أو التخلي عن قضية فلسطين وشعبها. ولذلك فما تزال تدفع فاتورة هذه السياسة في شكل عقوبات متواصلة وحصار اقتصادي غير مسبوق. ويشعر القادة الإيرانيون بانعكاسات ذلك على سياساتهم الداخلية وبرامج التنمية لديهم. فالتصدي للهيمنة الأمرو-إسرائيلية على المنطقة أفقدها القدرة على الخروج من الحصار الذي ازداد تشددا وضغطا. فالوضع الاقتصادي الإيراني يعاني من ضعف وتراجع برغم براعة الإيرانيين في القفز على سياسات الحصار بأساليبهم الخاصة.
سيجد الإيرانيون في الأسابيع المقبلة أنفسهم في مواجهة صعبة مع الإدارة الأمريكية الجديدة التي تتعرض لضغوط كثيرة للعودة إلى الاتفاق النووي. وثمة احتمال أن يصر جو بايدن على إعادة النقاش بشأنه، الأمر الذي رفضته طهران جملة وتفصيلا. فهي تعلم أن الضغوط من السعودية و«إسرائيل» على أمريكا لمنع إيران من الاستمرار في مشاريع التصنيع الصاروخي تؤثر في سياسات واشنطن. فالسعودية التي قادت الحرب على اليمن تعاني من الاحباط، خصوصا في العامين الأخيرين اللذين استخدمت القوات اليمنية خلالهما صواريخ بعيدة المدى أحدثت توازنا عسكريا مرعبا للسعوديين. وتتهم إيران بأنها مصدر تلك الصواريخ.
أما الكيان الإسرائيلي فقد وجد نفسه عاجزا عن المواجهة العسكرية مع قوى المقاومة التي تعتبر الصواريخ أحد أهم مقوماتها. وتعتبر «إسرائيل» كذلك أن إيران مصدر صواريخ تلك القوى. ولذلك تراجع التفوق العسكري الإسرائيلي خطوات كثيرة إلى الوراء، ولم يعد قادرا على حسم المعارك العسكرية مع المجموعات الفلسطينية المسلحة. من هنا تمارس السعودية والإمارات و«إسرائيل» ضغوطا على الولايات المتحدة لاشتراط تضمين الاتفاق النووي بنودا تُخضع المشروع الصاروخي الإيراني للرقابة الدولية على غرار منشآتها النووية. ومن الطبيعي أن ترفض طهران ذلك بشكل قاطع لأنها تعتبر ذلك المشروع المصدر الأول لتوفير سلاح نوعي تحمي به نفسها وتمنع الدول النووية من استهداف الأراضي الإيرانية بالسلاح النووي.
تجاذبات شتى تحدث بشكل مستمر في الساحة الإيرانية، وتزداد حدة مع اقتراب الذكريات المقترنة بما حدث في طهران في الأيام العشرة الاولى من شباط/فبراير 1979. اما أعداء هذه الثورة فيرون كذلك أن إيران استطاعت استرداد المبادرة السياسية والأخلاقية في المنطقة. وتتنبى إيران في الوقت الحاضر سياسة التقارب مع الدول الاقليمية التي ترغب في ذلك، وقد توسعت علاقاتها مع باكستان وأفغانستان وتركيا والعراق وقطر بالإضافة لسوريا ولبنان واليمن. وثمة محاولات للتقارب مع أذربيجان بعد عقود من الفتور بسبب علاقات الأخيرة مع واشنطن وتل أبيب. وما أكثر الدعوات الإيرانية للتعاون الإقليمي لحماية «أمن الخليج» من جهة ووقف التراشق السياسي والإعلامي الذي يفتح المجال للأجانب والاحتلال لإبقاء المنطقة في حلقة مفرغة من التفكك والاضطراب. كما أن توسع العلاقات بين كل من روسيا والصين أصبح ظاهرة مقلقة لدى الغربيين ايضا. مع ذلك ستبقى الجمهورية الإسلامية تواجه صعوبات اقتصادية جمة من جهة ودبلوماسية وأيديولوجية من جهة أخرى، خصوصا مع الاستهداف المتواصل لظاهرة «الإسلام السياسي» الذي تمثل إيران رمزه الأبرز، من قبل الغرب وقوى الثورة المضادة.
د. سعيد شهابي
القدس العربي