منذ الاجتماع الشهري الأخير لمصرف إنجلترا (المركزي البريطاني)، الأسبوع الماضي، والجدل على أشده في بريطانيا حول احتمالات خفض المصرف سعر الفائدة الأساسي لما تحت الصفر لتصبح في السالب، ومدى تأثير ذلك في فرص الاقتصاد للانتعاش والتعافي من أزمة وباء فيروس كورونا. وبدأ الجدل بإعلان المصرف في الرابع من فبراير (شباط) أنه طلب من البنوك في المملكة المتحدة اتخاذ الاستعدادات لإمكانية التعامل بفائدة سلبية وأمهلها ستة أشهر لتكون جاهزة.
لكن مصرف إنجلترا، في بيانه بعد اجتماع لجنة السياسات النقدية، أكد بوضوح أنه “لا يريد توصيل أي رسالة بأنه ينوي اتخاذ قرار بالفائدة السلبية في أي وقت في المستقبل”، وكان محافظ المصرف أندرو بيلي أشار العام الماضي إلى أن الفائدة السلبية هي إحدى الأدوات الممكنة لدى المصرف ضمن إجراءات تكييف السياسة النقدية لمواجهة الآثار السلبية لوباء كورونا في الاقتصاد.
ويتركز الجدل حالياً في بريطانيا على مدى تأثير مثل هذا الإجراء في الاقتصاد، خصوصاً قطاع البنوك، وكذلك منحى الادّخار والإنفاق الاستهلاكي، ويميل معظم الاقتصاديين إلى أن الفائدة السلبية قد لا تكون ذات فائدة كبيرة في ظل حزم التيسير الكمّي المتكررة من المصرف المركزي، ويستشهد هؤلاء بالنتائج المتواضعة أو حتى العكسية لقرار الفائدة السلبية في بعض البلدان.
الفائدة السلبية وتبعاتها
سعر الفائدة الأساسية هو نسبة الفائدة التي يحددها المصرف المركزي في أي بلد ويدفعها على إيداعات البنوك التجارية لديه ويحصّلها على الاقتراض منه، وعلى أساسه، تحدد نسب الفائدة على الادخار والقروض، بما فيها القروض العقارية، التي تقرّها بنوك التجزئة لتدفعها على مدخرات المودعين فيها أو تحصّلها على قروضها للشركات والأفراد، وتحدد البنوك والمؤسسات المالية سعر فائدة التجزئة استناداً إلى سعر الفائدة الأساسية الذي يقرره المصرف المركزي.
ومنذ مارس (آذار) 2020، خفّض مصرف إنجلترا سعر الفائدة إلى نحو صفر (0.1 في المئة)، وهو ما أبقى عليه في اجتماع لجنة السياسات النقدية الخميس الماضي، وكذلك معظم المصارف المركزية في الاقتصادات المتقدمة، تحافظ على أسعار الفائدة حول الصفر بهدف التحفيز على إقراض الشركات والأفراد بما يساعد على الإنفاق والحفاظ على حركة الاقتصاد. ويشجع على ذلك أنه لا توجد ضغوط تضخمية، إذ إن معدلات التضخم أقل من المستهدف.
ويرى كثيرون من الاقتصاديين أن الفائدة السلبية هي عقاب للمدخرين، الذين إذا لم يجدوا عائداً على ادخارهم أو اضطروا إلى دفع مقابل ادخار أموالهم، سيسحبون تلك الأموال ويحتفظون بها نقداً، ومن شأن ذلك أن يضعف الملاءة المالية لبنوك التجزئة والمؤسسات المالية التي تقرض استناداً إلى حجم الادخار فيها.
أما الفائدة بالسالب، فتعني أن يتم الإقراض ليس بكلفة أقل أو حتى من دون كلفة، ولكن نظرياً أن يدفع البنك للمقترض، والعكس للمدخرين، فيكون على من يدخر أمواله أن يدفع للبنك الذي يدخرها فيه. طبعاً هذا نظرياً، ولا يحدث في الواقع بالنسبة إلى تعاملات التجزئة، فمثلاً، على الرغم من أن سعر الفائدة الأساسي الآن قرابة صفر، تجد الفائدة على القروض العقارية فوق واحد في المئة وعلى القروض الشخصية أيضاً، أما على الادخار، فتجدها ما بين 0.2 و0.5 في المئة، ومن الفارق بين الفائدة على الادخار والفائدة على الإقراض، تحصل البنوك على النسبة الأكبر من عائداتها وأرباحها.
وفي الحالات التي تخفّض فيها المصارف المركزية الفائدة بالسالب، ينطبق ذلك في الأساس على تعاملات المصرف المركزي مع بنوك التجزئة. وحين تجد تلك البنوك أن عليها أن تدفع مقابل إيداع أموالها لدى المصرف المركزي تسحب تلك الأموال وتستخدمها في الإقراض، في الوقت ذاته، تستطيع بنوك الاقتراض من المصرف المركزي وتحصل على مقابل بمقدار نسبة الفائدة السلبية.
التضخم والإقراض
المهمة الأساسية للمصارف المركزية هي الحفاظ على الاستقرار المالي عبر ضبط الارتفاع في قيمة الأصول، وذلك من خلال السياسة النقدية للمصرف وأداتها الرئيسة هي تحديد سعر الفائدة الأساسية، وتخصص الحكومات معدلاً مستهدفاً للتضخم يكون على المصرف المركزي ضبط السياسة النقدية بما يحافظ عليه، فإذا ارتفع التضخم وشهدت قيم الأصول مبالغة في الصعود، يرفع المصرف المركزي الفائدة الأساسية ليزيد من كلفة الإقراض ويشجع على الادخار، فيمتص الضغوط التضخمية في الاقتصاد.
وفي ظل الركود الحالي نتيجة وباء كورونا وتدهور الطلب بشكل عام في الاقتصاد وانكماش النشاط الاقتصادي إجمالاً، تستخدم المصارف المركزية آخر ما في جعبتها من أدوات لدفع الاقتصاد للنمو، ومنذ الأزمة الصحية مطلع العام الماضي، اعتمدت المصارف المركزية برامج تحفيز (التيسير الكمي)، توفر السيولة في الاقتصاد عبر شراء سندات الدين، سواء سندات خزينة أو سندات دين شركات، لكن ذلك لا يبدو مشجعاً على التعافي، وإن كان جنّب الاقتصادات احتمالات ركود عميق، يصل إلى كساد طويل الأمد.
على مدى العام 2020، ومنذ بدء تفشي “كوفيد-19″، لم يزِد معدل التضخم في بريطانيا على نسبة صفر وأقل من واحد في المئة، صحيح أنه ارتفع في ديسمبر (كانون الأول) إلى 0.6 في المئة من نسبة 0.3 في المئة في نوفمبر (تشرين الثاني)، إلا أن ذلك يظل بعيداً من المستهدف الحكومي عند إثنين في المئة، وبالتالي، ليست هناك مشكلة أمام مصرف إنجلترا لخفض سعر الفائدة الأساسية أكثر وبالسالب.
مع ذلك، هناك شكوك كبيرة في أن الفائدة السلبية يمكن أن تؤدي إلى معدلات إقراض تترجم بإنفاق استثماري واستهلاكي يدفع الناتج المحلي الإجمالي نحو النمو بالقدر الكافي للتعافي من أزمة وباء كورونا.
تجارب غير مشجعة
ولجأ بعض المصارف المركزية إلى خفض أسعار الفائدة الأساسية لما دون الصفر، أي بالسالب، العام الماضي كإجراء من قبل سلطات السياسات النقدية لدفع النشاط الاقتصادي لمقاومة الركود في مواجهة تبعات الجائحة.
فالمصرف المركزي الأوروبي قرر سعر فائدة سلبية عند 0.5- في المئة، لكن ذلك ينطبق على احتياطيات بنوك التجزئة لدى المركزي الأوروبي فحسب، وفي اليابان، سعر الفائدة الأساسية سلبي أيضاً عند 0.1- في المئة. أما سويسرا مثلاً، فلديها أقل سعر فائدة سلبية عند 0.7- في المئة، والدنمارك عند 0.6- في المئة.
وفي السويد، نجد سعر الفائدة الأساسية سلبياً عند مستويات ما بين 0.1- و0.5- في المئة، وكانت السويد من الحالات النادرة التي طبقت سعر الفائدة السلبي بعد الأزمة المالية في 2008 – 2009، ثم مرة أخرى ما بين 2015 و2019، وعلى الرغم من أن ذلك أدى إلى غليان في قيمة الأصول، مثل ارتفاع أسعار البيوت والعقارات عموماً، إلا أنه لم ينعكس في شكل تحسّن ملموس في النشاط الاقتصادي أو نمو لناتج المحلي الإجمالي.
وفي سويسرا، لم تشجع الفائدة السلبية المستثمرين على ضخ الأموال في الاقتصاد، بل على العكس نتيجة عدم اليقين استفادوا من الفائدة السلبية للاستثمار خارج اقتصاد بلدهم.
وفي ألمانيا، ونتيجة سعر الفائدة الأساسية تحت الصفر، سحب المدخرون أموالهم من البنوك، وتشير أرقام المصرف المركزي الألماني إلى أن موجودات الادخار النقدي (خارج البنوك) لدى الأسر والأفراد تضاعفت ثلاث مرات منذ قرر المصرف المركزي الأوروبي الفائدة السلبية في 2014 ليصل حجم الادخار في شكل نقد إلى أكثر من 52 مليار دولار.
كل تلك النماذج غير المشجعة قد تعني أن مصرف إنجلترا ربما لا يلجأ إلى خفض سعر الفائدة الأساسية تحت الصفر، وإنما كان قراره قبل أيام بطلب الاستعداد من البنوك مجرد احتياط لأسوأ الفروض إذا دخل الاقتصاد في ركود جديد.
أحمد مصطفى
اندبندت عربي