الكتاب أشبه برواية رسمية لحزب الله عن طبيعة علاقته بالدولة اللبنانية وموقفه منها، سواء من الناحية الأيديولوجية أو السياسية، لاسيما أنَّ مؤلِّف الكتاب حسن فضل الله، هو نائب عن حزب الله في البرلمان اللبناني، ومن المفترض أنه مُطَّلِع على سياسات الحزب ما ظهر منها وما بطن من بعضها، ولن يُصدِر كتابه إلا بعد أن يحظى بموافقة الحزب وقبوله أو عدم الاعتراض عليه على الأقل.
ويهدف الكتاب بالدرجة الأولى إلى تبرير تفاقم دور حزب الله على حساب الدولة اللبنانية ووظيفتها، سواء في الداخل اللبناني أو في تجاوزها ونسج علاقة خاصة مع بعض الخارج لاسيما سوريا وإيران، أو إصدار مواقف وإعلان حروب دون مراعاة مصالحها أو مخاوفها؛ وذلك ببساطة لأنَّ “الدولة” ليست موجودة أصلًا أو مُعطَّلة أو ما زالت في طور التكوين.
الدولة المفقودة
إنَّ استقلال لبنان عام 1948 عن فرنسا لم يكن حقيقيًّا؛ لأنه لم يراعِ لُحْمة الامتداد السكاني لبعض أهله؛ حيث “ألحقت قُرًى من جبل عامل، عُرفت لاحقًا بالقرى السبع، بالانتداب الإنجليزي، ووُضع خط حدودي مع سوريا أبقى قرى بقاعية داخله”. كما أن الاحتلال الفرنسي “أنتج طبقة حاكمة، أسَّست نواة دولة وَفْق أهوائها ومصالحها، وصبغتها بصبغتها الطائفية الاحتكارية”، ويقصد بذلك ما كان يُسمَّى بحكم المارونيَّة السياسية التي أرادت الاستئثار بحكم لبنان الوليد دون بقية الطوائف الأخرى، لاسيما تلك الشرائح التي التحقت بالكيان اللبناني الجديد. ويضرب فضل الله مثالًا على “مظلومية” هؤلاء أنه “لم يكن يوجد في جبل عامل وبعلبك والهرمل والبقاع وما إليها سوى 24 موظفًا”، وأن عدد سكانها “على التحقيق 150 ألفًا”. لهذا فإنَّ الفئات “المهمَّشة” وغالبيتها من الشبان الشيعة الذين انخرطوا في اليسار سريعًا” لم يكن لاعتبارات عقائدية أو فكرية، بل لمواجهة انحراف السلطة، لاسيما في القضايا الوطنية الكبرى وفي طليعتها الصراع مع إسرائيل”(1).
ويَصِم فضل الله الاستقلال اللبناني بأنه كان “بلا سيادة”؛ حيث بقي جنوب لبنان نُهْبة للحرمان من قِبل الدولة من جهة، وفريسة للاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى؛ لتقاعس الدولة عن القيام بواجبها في رعاية وحماية تلك المناطق، بل كانت وقائع الحرب الأهلية اللبنانية في سياق البحث عن “الدولة المفقودة” في لبنان، حيث “كان التنازع بين اللبنانيين على مفهوم الهوية الوطنية الجامعة”، فكلٌّ منهم انجذب لهويته الطائفية والتاريخية؛ لأنَّ الدولة لم تستطع “دمج هذه الجماعات في هوية وطنية موحَّدة”(2).
ويريد الكتاب بهذا أن يؤكِّد أن لبنان لم يعرف تاريخيًّا دولة بمعنى الكلمة بعد الاستقلال عن فرنسا، وأن جذور حزب الله في موقفه من الدولة خاصة على المستوى الشيعي تعود إلى الزعيم التاريخي للطائفة “السيد موسى الصدر”، الذي عمل على جبهتيْن، جبهة رفع الحرمان عن الشيعة في لبنان، وجبهة دفع الاحتلال عن الجنوب وتحريره، وأن الصدر “سدَّ الفراغ القيادي” الذي كانت تعاني منه الطائفة حينها، وأصبح بعد اختفائه باعثًا على الخروج من “المظلومية التاريخية” التي كانت تَرْزَح تحتها(3).
ويشي السياق الذي اختاره الكاتب بأن ولادة حزب الله جاءت في بيئة لبنانية تعاني من التشتُّت والحرب وعدم الإجماع على الهويَّة، ليكون “الحزب” جوابًا شافيًا عما تعانيه الطائفة الشيعية من حرمان، فهو بهذا الاعتبار الجواب الطبيعي لشباب الطائفة الذين كانت لديهم “تطلعات” وطنية وما فوق وطنية، بدءًا من التحرر من الاحتلال مرورًا بالعتق من الحرمان انتهاءً بإقامة “الدولة العادلة”. ووفق هذا التحليل أيضًا، فإنَّ الدولة لم يكن لديها الفرصة للوجود في ظل ظروف الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء معتبرة من جنوب لبنان وبقاعه، لاسيما أنه لم تتمكن بعض قيم “المقاومة” من الاستقرار في الدولة العَصِيَّة على الإصلاح.
من المفارقة في هذه السرديَّة أنها تعيد كتابة بعضًا من التاريخ الوطني للكيان اللبناني في علاقته مع الدولة من منظور مذهبي، وتحيل إلى دور تاريخي لحزب الله في بناء الدولة اللبنانية، وتقفز فوق كل ما سواه، وقد يكون مقبولًا باعتبار أنها رواية من زاوية واحدة لفصيل “طائفي”، لكن من المفارقة أن تصدر عن نائب ينتمي لحزب الله، الحزب الذي كان قد صدر في الثمانينات عن فكر “الوحدة الإسلامية” والانتماء للحركة الإسلامية بمعناها الواسع، والتلاقي على “المقاومة” في أُفقها الوطني والإنساني الأوسع، وما يتضمنه من نصرة “للمستضعفين” ومحاربة “للمستكبرين”. كما لم يعتبر الكاتب من التاريخ اللبناني القريب أن من أسباب فقدان الدولة بعد الاستقلال أن تاريخها المرويَّ لم يتسع إلا لثُلَّة قليلة في جبل لبنان دون بقية اللبنانيين، ويبدو أن قصة الحرمان في لبنان لم تتسع في الكتاب إلا لشريحة قليلة في جبل عامل والهرمل التي تغلب عليها الهوية الشيعية ولو على سبيل التمثيل، دون أن تقدِّم رؤية أشمل، وكأنَّ المطلوب من الدولة كي توجد أن تَحُلَّ مشكلة طائفة بعينها دون سواها.
دولة الطائف المعطَّلة
لم يأتِ اتفاق الطائف (1989) الذي جمع الأطراف اللبنانية المتحاربة لبناء دولة، وإن “سمح بإعادة تركيب مؤسسات الدولة بصيغة جديدة”، لكنه “أبقى على المشكلات البنيويَّة داخل الدولة وفي طليعتها البنية الطائفيَّة غير القادرة على إنتاج دولة بمعناها المتعارف”، وكل ما حقَّقه الطائف في هذا الصدد أنه “نقل الصلاحيات من فئة إلى أخرى” وكرَّس الطائفية بدل أن يُلغيها، مع الإقرار بأنه أنهى الحرب وحلَّ الميليشيات، وهي نتيجة طبيعية لاتفاق نتج عن التقاء مصالح “أميركي سوري وصيغة نهائية بترتيب سعودي”(4)، ومن ثَمَّ جرى “تلزيم” دمشق لتطبِّق الطائف، وهو ما كانت تفعله ولكن وَفْق تفسيرها.
وفي تبرئة للرئيس السوري يقول الكاتب: إن “قيادات سورية تحكمت بالقرار، واستجلبت لنفسها منافعَ جمَّة بشراكة مع جهات لبنانية استولت على مقدرات الدولة”، بينما كان يُمسِك الرئيس حافظ الأسد بقضايا استراتيجية: ملف الصراع مع إسرائيل وملف العلاقات الخارجية(5).
والجدير بالذكر أن حزب الله اعترض على الطائف وأصدر دراسة تناولت نقدًا للاتفاق في شقَّيه الأمني والسياسي، لكنه لم يُقدِم عمليًّا على عرقلته، وانتهى به الأمر نحو الاستفادة القصوى مما تتيحه بنوده دون أي التزام تجاهه. ويشير فضل الله إلى أن الجنرال ميشال عون كان المعارض الآخر لاتفاق الطائف من الطرف المسيحي، ولكن كل منهما كان له “منطلقاته ووسائله”، ويبدو أن روح الاعتراض على الطائف عند نشوئه كان لها دورها في إعادة رسم التحالفات بين الطرفين عند خروج الأجهزة العسكرية السورية عام 2005 من لبنان وانتهاء الطائف كما عُرف إبَّان الحقبة السورية، لاسيما أن هذه التجربة لم تبنِ “الدولة المنشودة، فتعطَّلت الدولة، وأُفرغ الدستور من محتواه، وحلَّت محله أعراف أهل السلطة في إدارة شؤون الدولة”، وهذا وَفْق توصيف الكاتب.
أمَّا الاستفادة الحقيقية لحزب الله من الطائف فإنَّه جعل “المقاومة” أحد البنود الأساسية في الميثاق الوطني اللبناني، حيث تم تكريس استثناء سلاح حزب الله من كونه سلاح ميليشيا يجب تسليمه للدولة، اعتمادًا على تأويل نص البيان الوزاري لحكومة الطائف الأولى برئاسة سليم الحص، مع الإشارة إلى أن هذا البيان اعتُبر جزءًا من وثيقة الطائف نفسها، وهو الذي ينص على أن الحكومة اللبنانية: “لن تدخر وسعًا في العمل على تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي بكل الوسائل المتاحة، ولاسيما دعم المقاومة الباسلة”. هذا الجزء المقتبس أورده الكاتب دون الجزء الآخر الذي يستمر بالقول: “والإصرار على المطالبة بتنفيذ القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن والقاضي بالانسحاب الإسرائيلي الفوري وغير المشروط من الأراضي اللبنانية”(6). وذلك باعتبار أن تنفيذ إسرائيل للقرار 425 بحسب حزب الله لا يؤثِّر على شرعية وجود “المقاومة” ولا يوجب حلها، فهي مرتبطة بتحرير كامل الأراضي اللبنانية لا بتنفيذ القرار المذكور فحسب.
وأهم ما يقدِّمه الكتاب في حديثه عن الطائف، أن نصوص الطائف في ظل الرعاية السورية أتاحت لحزب الله أن يعيد تفسيرها بما يسمح لحزب الله أن يكون “المقاومة” في لبنان دون سواه، وأن يُضفي الشرعية على دوره الذي بدأ مع الاحتلال الإسرائيلي بهدف التحرير، لكنه -بفضل التفسير السوري للطائف- ما يزال يمتد إلى أبعد من ذلك، إلى “الدفاع عن لبنان” بأوسع المعاني وأكثر التفسيرات تعقيدًا.
المقاومة والدولة
إن الالتفات إلى “الدولة” والمشاركة في مؤسساتها أو الاستفادة منها أصبح ممكنًا في رؤية حزب الله، كما يُستفاد من الكتاب بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، فهو “إنجاز لبناني لاستقلال تاريخي يمكن التأسيس عليه”(7)، ولكن دور المقاومة لم ينتهِ بهذا التحرير؛ حيث ما تزال أراضٍ لبنانية -مهما كانت مساحتها صغيرة- تحت الاحتلال، ويقصد بها مزارع شبعا، ما دامت الدولة اللبنانية تقول بأنها لبنانية وليست سورية؛ لأنَّ السلطة اللبنانية هي التي تحدِّد حدود أراضيها، أمَّا “المقاومة” فتقوم بالتحرير ولا “تمارس أي سلطة مدنية أو أمنية عليها”.
وإن كان حزب الله كان قد اكتفى بالمشاركة بالمؤسسات المنتخَبة قبل التحرير، فإنَّه انتقل إلى المشاركة في كل مؤسسات الدولة الأخرى بعده، خاصة أن “نزع سلاح حزب الله” كان قد طُرح بقوة أكبر بعد انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية بحسب المنطق الدولي، وليس هناك من مبرِّر لاستمرار السلاح بيد حزب الله إلا التأثير بالمعادلة الداخلية اللبنانية، فكان على الحزب أن يتحصَّن في مؤسسات الدولة ليحمي “سلاحه”، وجاء القرار الدولي 1559 الصادر عن الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول عام 2004 من مجلس الأمن، والذي طالب “جميع القوات الأجنبية المتبقية بالانسحاب من لبنان” أي الجيش السوري، ودعا “إلى حلِّ جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها” أي حزب الله، وهو ما اعتبره الكاتب تآمرًا على المقاومة وعلى الدولة اللبنانية، وأورده الكاتب في الفصل الخامس من الكتاب تحت عنوان “دول على الدولة”.
ولكنه -أي المؤلف- يورد أيضًا رواية الحزب حول اللقاء السري لأمين عام حزب الله حسن نصر الله مع رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في نهاية عام 2004، وعرض فيه على حزب الله الشراكة الكاملة كمقاومة وحتى كممثِّل للشيعة في الدولة، وأنه رفض الثانية منها لأنها تمسُّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وأن الحريري أقرَّ باحتفاظ “المقاومة بقوَّتها” حتى إنجاز التسوية مع إسرائيل، بل تجاوز الحوار بين الرجليْن ذلك إلى البحث حول دور إقليمي لبناني فعَّال، ولكنَّ اغتيال الحريري عام 2005 أسقط هذا المسار، وولَّد مسارًا دوليًّا يتضمَّن مقايضة بين سلاح حزب الله والسلطة، وهو ما يرفضه الحزب على الإطلاق.
يقدِّم الكتاب “حزب الله” تحت عنوان “المقاومة” كقوة عاقلة تبحث عن الحلول السياسية ما أمكنها ذلك، وهذا ما دفعها للتحالف مع سوريا إقليميًّا، رغم أنها تأذَّتْ منها مرارًا -ومن الأمثلة على ذلك ما سُمِّي مجزرة ثكنة فتح الله عام 1987، حيث قتلت القوات السورية أكثر من 20 شخصًا ينتمون للحزب رميًا بالرصاص(8)-، أو مع الجنرال ميشال عون محليًّا رغم أنه كان في الجهة المناوئة لحزب الله إبَّان الحرب الأهلية وما بعدها إلى زمن قريب.
ومن اللافت أن تحالف الحزب مع سوريا تعزَّز بخروج الأخير من لبنان وتحلُّله من المسؤولية عن اتفاق الطائف، كما أن التفاهم مع الجنرال عون الذي تجمعه مظلة اعتراض الطرفين على الطائف وتدشينهما خطابًا طائفيًّا وفئويًّا جديدًا داخل بنية الدولة تجاوز ما عُهِد من تلك الطبقة السياسية التي أسهمت في بناء الطائف، أمثال الرؤساء: نبيه بري، رفيق الحريري، وليد جنبلاط، سمير جعجع، وسواهم.
ويؤكِّد الكاتب أن “المقاومة” رغم قدراتها العسكرية الفائقة لبنانيًّا، هي حريصة على تسهيل متطلبات الدولة وحاجاتها الأمنية، ولكن ذلك كله بالشراكة الحقيقية، وهي بيت القصيد، وهي مثار طعن الطاعنين بأن حزب الله يريد دولة شريكة له، لا بل له اليد الأمنية العليا فيها.
دولة المستقبل
بعد اتفاق الدوحة عام 2008 الذي جاء عقب سيطرة حزب الله عسكريًّا على بيروت في 7 من مايو/أيار روَّج الحزب لما سمَّاه “الديمقراطية التوافقية” كترجمة لما سمَّاه “دولة الشراكة”، وهو مصطلح يتكرر في أدبيات حزب الله خاصة بعد عام 2000، وهو ما عكسه الكتاب إلى جانب مصطلحات أخرى: “الدولة العادلة”، “الدولة القوية”، “الشراكة التوافقية”، وهي امتداد لما أُطلق عليه المعادلة الذهبية والتي أصبحت جزءًا من البيان الوزاري لحكومتي 2008 و2009، “الجيش الشعب المقاومة”، وهذه جميعها تؤكد على التلازم ما بين “المقاومة” كسلاح لا يخضع للدولة، وحق حزب الله في الشراكة الكاملة في “الدولة” كأداة سلطة وحكم بما يسمح له باستعمال الفيتو على قراراتها، أو أن تتبنَّى قراراته التي يرى أنها حيوية لاستمراره -كفصيل مسلح- أو بالحد الأدنى أن لا تعارضها، وهو جوهر الدولة التي يسعى إليها حزب الله في ظل التنوُّع اللبناني الطائفي والمذهبي القائم.
إذا تجاوزنا الهندسة الرفيعة التي يقوم بها الكاتب ليجعل لكل تطوُّرٍ في استعمال القوة من قِبل حزب الله تجاه مخالفيه في الداخل (كما حصل في بيروت عام 2008) أو في الإقليم (كما يحصل في الحرب السورية) مرتبط بمؤامرة من قبلهم على المقاومة أو بحدث كان يدرك وقوعه قبل تحققه -على الرغم من أنه من صنيع يديه أو انعكاسٌ لتصرفاته أحيانًا- فإنَّ أهم ما في الدولة التي يقترحها أنها خاضعة لسلاحه وتتلاءم مع حاجاته الأمنية، بما يذكِّر بالمارونيَّة السياسية التي أدخلت البلاد في حرب أهلية دامية لأن بقية اللبنانيين تمردوا على حكمها وسعوا إلى إيجاد بديل لها.
وهو ما يدركه الكاتب؛ لذا ينتخب عباراته ويقول بأن دور الحزب في الدولة المرجوَّة هو “مشروع مقاومة للحماية والدفاع عن لبنان وليس مشروع سلطة”(9). وبهذا، فإنَّ سلاح حزب الله ليس للتحرير فحسب، بل “للحماية والدفاع” أيضًا، وهي وظيفة مستقرة “لامتناهية” تقوم بها الجيوش الوطنية في العادة لا “الأحزاب” التي تنتمي إليها شريحة واحدة من المواطنين، لا بل شريحة من طائفة بعينها فحسب. ولتلافي ضعف الدولة اللبنانية الذي يرى الكاتب أنه بنيويٌّ ومُلازِم، فلابُدَّ من اعتماد ما سمَّاه “معادلة الحماية” للدفاع عن لبنان، وما سلف تسميتها بالمعادلة الذهبية: أي التكامل بين “المقاومة والجيش والشعب” في مواجهة الأخطار. والأخطر في هذه المعادلة أن الخطاب السياسي والإعلامي للحزب والتجربة التي قدَّمها حتى اللحظة، كرَّست لدى شرائح لبنانية كبيرة أن المقصود بـ”شعب المقاومة” هم أنصار حزب الله دون سواهم، وأن “المقاومة” اسم مقصور على بندقية حزب الله وعناصره دون سواهم، حتى ولو كانوا منخرطين في حروب داخلية أو إقليمية ليس لها أي علاقة “بالاحتلال الإسرائيلي” وترفضها الدولة اللبنانية، كما أنها لا تشمل من يحمل بندقية في مواجهة “الاحتلال الإسرائيلي” إذا لم يكن منتميًا لحزب الله أو لبعض مجموعاته الموالية له. وبهذا لن تكون هذه المعادلة إلا توطينًا دائمًا لسلاح حزب الله في داخل بنية الدولة وعقيدتها. أما العنصر الثالث الجيش فهو ليس على إطلاقه، فهو مُتَّهَم بأنه يريد بذلك الجيش الخاضع له أو المحايد حيث يطلب منه ذلك، مع العلم أن هناك مَن يتَّهِم الجيش أو مخابراته بأنها مُخترَقة من حزب الله ومنحازة له(10).
أما الأخطار التي ستحمي المقاومة لبنان منها -بحسب الكتاب- فهي: الخطر الإسرائيلي القادم من الجنوب، وهو دائم، والخطر الآخر هو “التكفيري”(11)، والقادم من الشرق والشمال، والمقصود به هو المعارضة السورية أو من يؤيِّد الثورة السورية، دون أن يبذل الكاتب أيَّ جهدٍ في التمييز بين فصائل المعارضة السورية والحركات التكفيرية الحقيقية فعلًا، ودون أن يشير إلى انخراط حزب الله في الحرب ابتداء تحت عنوان “المقاومة”، مع إدراكه لوجود رؤية أخرى تقول: إن الحرب هناك هي حرب محاور إقليمية وقف فيها حزب الله -تبعًا للموقف الإيراني- إلى النقيض مما تتطلبه “المقاومة” و”الدولة العادلة”، وقف فيها إلى جانب “الدولة المستبدة” “دولة الرئيس بشار الأسد” التي لا تقبل أدنى شراكة مع شعبها.
خاتمة
إن المقاومة في لبنان على أنواعها، الوطنية والإسلامية، وُلِدت من نفس رحم الحرب الأهلية؛ بسبب استئثار المارونية السياسية بعد الاستقلال بإعادة تعريف الدولة ووظيفتها واحتفاظها بامتيازات خاصة دون سواها، بدعوى أنها خلقت الكيان وصنعت استقلاله بعد أن لم يكن شيئًا، وما يقدِّمه الكتاب لا يصدر إلا عن تلك الروح التي صدرت عنها “دولة المارونية السياسية”؛ فسياق المعالجة والزاوية التي ينطلق منها تقوم على فكرة أن “المقاومة” التي تتمثَّل في حزب الله حصرًا و”الشعب اللبناني” وهو جمهور الحزب حصرًا، صَنَعَا التحرير للبنان الذي هو أساس بناء “الدولة المنشودة”، ومَن فعل ذلك هو من له الحق بتقرير شكل الدولة وطبيعتها ووظيفتها.
كما يفتقر الكتاب في مُقدِّمته إلى توضيح موقف حزب الله عقائديًّا من “الدولة” التي يريدها في ظل وجود “دولة الولي الفقيه” في إيران؛ لأنَّ إجازة الولي الفقيه لمقلديه بالانتماء “لدولة” لا تستوفي الشروط الشرعية -فضلًا عن “إقامتها”- مرهونٌ “بمصالح شرعية” قد تتناقض مع قيم “الدولة الحديثة” تمامًا، الأمر الذي كان يتطلب نقاشًا أكثر تفصيلا من الكاتب، لا بل أن انتماء مواطنين لبنانيين “لولاية” أخرى في “إيران” لها حاجات محلية وإقليمية خاصة، هو أمر يتطلب بدوره نقاشًا آخر قد لا تستقيم نتائجه مع كثير من القيم الوطنية التي قرَّرها الكاتب منطلقًا “للديمقراطية التوافقية” و”دولة الشراكة”، بل قد يجعل من حزب الله منظمة لبنانية بطموحات غير لبنانية أو تتعارض مع سواه من اللبنانيين.
نعم يحوي الكتاب معلومات مهمَّة وصفحات بيضاء من تاريخ المقاومة في لبنان وتتعلق بحزب الله على وجه الخصوص لابُدَّ من سردها لتشكِّل قيمة أخلاقية وسياسية يمكن التحاكم إليها أو القياس عليها، سواء في السعي لبناء “الدولة الرشيدة” أو لاعتبارها أثناء عملية البناء نفسها. ولكن الكاتب حسن فضل الله فضَّل تَرْداد مقولات لحزبه دون إعادة نقاشها أو نقدها ولو على سبيل الاستدراك والتوضيح، خاصة أنها تعرضت مرارًا وتكرارًا لنقدٍ من المخالفين أو حتى من المؤيدين أحيانًا، لكنه سلك في كثيرٍ من الأحيان سبيل الدعاية والإعلام بما يُشبِه “الإعلام الحربي” أو الدعاية الحزبية، ليضع القارئ في نهاية المطاف أمام معادلة واحدة يمكن صياغتها ببعض المبالغة المعبِّرة: أن “تعطيل السلاح” هو “تعطيل للدولة”، ولا يمكن أن تقوم “الدولة الفعليَّة” دون وجود حزب الله كمنظمة عسكرية قوية.
المؤلف: حسن فضل الله
مراجعة: شفيق شقير
مركز الجزيرة للدراسات